أتوقف اليوم عند أحد أجمل المونولوجات الرومنسية التي لحَّنها الأستاذ محمد القصبجي للسيدة أم كلثوم : منيت شبابي. جاء هذا المونولوج في سياق فيلم نشيد الأمل ، من إخراج أحمد بدرخان عام 1937.
من المهم أن نتذكر ، ونحن ندخل في رحاب هذه الأغنية ، أن السينما الناطقة كانت قد بدأت في مصر قبل خمس سنوات فقط ، مع فيلم ” أولاد الذوات ” ، من إخراج محمد كريم ، وبطولة يوسف وهبي ، ثم فيلم ” أنشودة الفؤاد ” ، من إخراج الإيطالي ماريو فولبي ، وبطولة جورج أبيض و نادرة ، ففيلم ” الوردة البيضاء ” ، من إخراج محمد كريم ، وبطولة محمد عبد الوهاب عام 1933 . هذه المقدمة ضرورية ، إذ أن هذه الأغنية لن تُفهم تماماً ، إلا إن تمت متابعتها على الشاشة ، في صورتها السينمائية ، كما سنرى بعد قليل، وكان هذا جديداً من الناحية السينمائية ، لتأتي أغنية يا دنيا يا غرامي ، في سياق فيلم يحيا الحب لعبد الوهاب عام 1938 ، فتؤكد هذه التقنية بشكل أكثر وضوحاً..
الأغنية
كتب نص الأغنية أحمد رامي ، الذي وضع سيناريو وحوار الفيلم ، ما سمح له بكتابة النص ، بما يتوافق مع الغاية منها ، والحدث الدرامي الذي تأتي في سياقه . تصوِّر الأغنية حسرة فتاة على أمنيات رافقتها ، بحبيب تعيش معه ، وإذ بها لا تلقى إلا الأحزان في حياتها الزوجية ، لتأتي لحظةٌ تسبح فيها هذه الفتاة الفقيرة ، التي أصبحت أماً ، في أحلامها مجدداً ، لتجد نفسها في حال من الثراء والنعمة. تُبرز الصورة هذه الحالة ، في تحوِّل محيط الأم ، من مظاهر الفقر ، إلى مظاهر النعمة ، في الملابس والديكور و تصفيف الشعر ، وكل ما يلزم لإبراز التضاد بين الحالتين ، فيما يُبرز اللحن هذا التحول ، في جملة لحنية متصاعدة ، تحمل دفقاً عاطفياً كثيفاً ، مع توزيع هارموني كاملٍ ، كتبه ونفذه عزيز صادق ، رغم أن الأغنية لحنت على مقام الراست الشرقي ، الذي يحمل في طياته أرباع الأصوات ، دون أن تُحس الأذن بأي خلل ناجم عن ذلك! يتم التحول عند جملة ” إمتى يا ربي يتهنى قلبي ، أشوف خيال الهنا ، أسبح في جو الأمان ” ، ولو كانت متابعة الأغنية تتم عبر أسطوانة ، أو عبر بثٍ إذاعي ، لما أمكن فهم ما يجري تماماً.
وضع القصبجي لحنه ، معتمداً على جمال صوت أم كلثوم ، و على قدراتها التعبيرية الفائقة ، على قالب المونولوج الرومنسي ، الذي يستند ، في تعبيره عن تقلب المزاج وتقديس الجمال ، على تغيرات القوافي والأوزان في النص ، و كذلك على كثافة الأحرف الصوتية ، التي تسمح بامتدادات صوتية لا نهائية ، تبرز جمال الصوت ، إضافة إلى تقاطعات للغناء مع الموسيقى ، التي تتحول إلى أحد أبطال الأغنية.
تعبيرٌ مقاميٌ مبدع عن المعاني
أتى اللحن أولاً على مقام الراست على الدو ، ليتحول إلى مقام العجم على المي بيمول ، عند ” ما شفت غير طيف الأحزان ، لينتقل مباشرة عند ” أشكي لروحي ” إلى مقام الراست على الفا ، لينتقل مباشرة إلى مقام البيات على الصول عند ” والباكي طول الليل سهران ” ، في انتقالات مقامية متلاحقة ، تنفذها أم كلثوم دون تمهيد موسيقي ، ما يبرز تمثلها للمقامات في وجدانها الموسيقي . يعبر هذا التصاعد المقامي المبدع ، مع التصاعد في درجات الاستقرار ، عن تمهيد استباقي للتصاعد اللحني الكثيف ، عند التغير القادم في حالة الأم ، الموصوف سابقاً ، والذي يمهد له العود بعودة إلى مقام الراست ، مع نقل للّحن إلى المناطق الأحدّ ( مقام الماهور ) ، لتقترب لحظة التحول عند ” إمتى ياربي يتهنى قلبي ” ، وهي ترفع وجهها إلى السماء ، فيما يشبه الدعاء ، فتتصاعد الموسيقى في أسلوب سمفوني حقيقي ، ولو أنها على مقام الراست ، وتتسارع ، في فيض عاطفي ، يمتد لثلاثين ثانية ، وكأنها تصوِّر دعاء أم كلثوم ، لكي تتحقق آمالها ، وهو ما يتحقق ، سينمائياً ، عبر تغير الصورة ، كما أسلفتُ.
أم كلثوم : تعبيرٌ مضمخٌ بالأسى رغم الخيال السعيد العابر.. و مساحة صوتية واسعة : 14 صوتاً موسيقياً سليماً
عبرت أم كلثوم عن معاني الأغنية ، في أداءٍ مضمخٍ بالأسى ، وأبرزات تنهدات ٍ خفيةً غلَّفت أداءها بمسحة خالصة من الحزن والشجن ، ولم يتغير أداؤها في المشهد الذي ظهر فيه التحول ، ما يعبر عن إدراكها بأنه كان خيالاً ، ولم يكن له من الحقيقة نصيب ، وهذا إبداع في الأداء توافق مع إبداع اللحن . من المهم أن نلاحظ ، أن القسم الأول من الأغنية جاء في مناطق صوتية منخفضة و متوسطة ، فيما تركز اللحن ، عند التغير إلى حالة الثراء ، مع هذا الفيض العاطفي ، في المناطق الصوتيه الحادة ، إذ تصل فيه أم كلثوم عند ” والقلب فرحان وهني ” إلى درجة الفا جواب ، وهذه درجة صوتية حادة تماماً لأصوات النساء.
إذا حسبنا الأصوات التي غطتها أم كلثوم على طول الأغنية ، منذ أن بدأ بأول صوت في بداية الأغنية عند ” منيت شبابي ” ، الذي جاء على درجة الصول قرار ، ووصولها هنا إلى درجة الفا جواب ، فإنها تكون قد وفرت مساحة صوتية واسعة ، وصلت إلى 14 صوتاً موسيقياً سليماً ، وهذه حالة نادرة في هذا الأسلوب من الغناء./ ملاحظة للموسيقيين: الأغنية أتت على طبقة مخفضة نصف درجة صوتية ، نسبة لطبقة آلة البيانو ، وتسمى هذه الطبقة : طبقة صغيرة ، ولذا فالدرجات الصوتية الحدّية ، نسبة لطبقة آلة البيانو تراوحت بين فا دييز قرار ، و مي جواب ، وطبعاً المساحة تبقى 14 صوتاً سليماً /.
ختام اللحن
يتنقل اللحن عند ” أبلغ مرادي وأسعد فؤادي ” إلى مقام البيات الشجي على درجة الصول ، لتعود الصورة إلى حالة الفقر ، مع انتقالٍ إلى ملامح من مقام النوأثر على الدو ( يمكن القول مقام حجاز أو مقام حجاز كار فالجملة اللحنية غير مكتملة ) ، وذلك عند ” يارب تصدق أوهامي ” ، مع توقفات على درجة الفا دييز عند كلمة أحلامي ( وهو ما جعلني أرجح مقام النوأثر ) ، تشيع أجواء الحسرة والشك في تحقق الأحلام ، لتنتقل أم كلثوم إلى مقام البيات على الري ، ثم إلى الراست على الصول ، ليتصاعد اللحن إلى مقام الماهور على الدو ، في تحولات مقامية متسارعة مرة أخرى ، وتختتم الأغنية بالدعاء ، عند ” يا رب حقق أحلامي ” في لحن ختامي متصاعد ، يماثل لحن الموسيقى ، التي مهَّدت لحالة التحول التي شهدناها قبل قليل ، في تعبير موسيقي مبدع ، ويمثل هذا التكرار في اللحن ، الذي أدى قبل قليل إلى تحقق الأحلام ، ولو في الخيال ، الأملَ في أن يتحول الحلم إلى حقيقة ، هذه المرة ، فيما يجسد هذا التصاعد ، أيضاً ، ختاماً معلّقاً للمونولوج ، وفق ما يتطلبه قالب المونولوج الرومنسي ، كما وضعه محمد القصبجي ، ورفيق عمره الشاعر أحمد رامي ، وهكذا نرى مرة أخرى ، ما كنا توقفنا عنده في أغنية : لعبة الأيام ، من ألحان السنباطي ، كيف يكون الإبداع اللحني ، عندما تكون ختامات الأغاني .. متعددة الأبعاد!