كثيراً ما يُظن أن التلحين عملية فطرية بسيطة ، وأن الملحن يكتفي بأن يضع نص الأغنية أمامه ، و أن يمسك بالعود .. ويبدأ التلحين! قد يصح هذا في أيامنا هذه ، حيث شح الإبداع وجفت القرائح ، فيما لم يعد التلحين بحاجة لآلة موسيقية ، بل لآلة إيقاعية! أما كبار الموسيقى العربية ، فقد كانت ألحانهم نتيجة جهد وفهم وتخطيط لمسار اللحن .. سأعطي اليوم مثالاً سهل التناول ، مبدئياً ، على ما أقول ، من خلال أغنية ” سلسليها ” النادرة للسيدة فيروز ، من كلمات الشاعر اللبناني قبلان مكرزل ، وألحان الأخوين رحباني ، حيث يبرز تخطيط اللحن ، على مستوى أسلوب تلحين كلمة واحدة ، تتكرر في سياق الأغنية ، ويتطور لحنها مع تطور معناها!
السيدة فيروز ، غنت في بداياتها ، بين عامي 1951 و 1953 ، خمس أغنياتٍ من كلمات الشاعر اللبناني قبلان مكرزل ، هي : حبذا يا غروب ، التي كانت أول ما لحن الأخوان رحباني لفيروز ، ثم كانت : ميُّ هل ترقصين ( تانغو الحنين ) ، أنت يا ميُّ زهرة ، ذا خيالي ، و سلسليها التي نعرض لها اليوم ، في تسجيل سُجل لاحقاً في القاهرة عام 1955 ، عندما زارها الأخوان رحباني وفيروز ، بدعوة من إذاعة صوت العرب .
النص:
جاءت قصيدة سلسليها ، كما قصائد كثيرة أخرى ، ومنها مثلاً قصيدة أقبل الصبح ، التي عرضت لها منذ يومين ، على شكل موشح أندلسي ، إذ أن الموشح كفن شعري ، أعطى الشعراء ، في مغرب العالم العربي ومشرقه ، إمكانيات كبيرة ، من خلال ما يتيحه من حرية في تنويع القوافي والأوزان ، وفي تناوبها ، وهو ما لا يوفره الشعر العمودي .
تشكلت القصيدة – الموشح ، كما يتبين من تتبع النص أدناه ، من مجموعتين متناوبتين من الأبيات : المجموعة الأولى A مشكلة من بيتين ، يحافظ فيهما ، على الإيقاع و الروي الداخلي للشطرات والروي العام ، وفي أي مجموعة من الشكل A مشكلة أيضاً من بيتين ، ترد لاحقاً ضمن عملية التناوب ، و من مجموعة ثانية B ، مشكلة من ثلاثة أبيات ، يحافظ فيها على الوزن و الروي الداخلي للشطرات والروي العام للأبيات ، ضمن المجموعة الواحدة ، ولكن الروي الداخلي والعام يتغيران ، عند تكرار ورود أي مجموعة مماثلة B ، ضمن عملية التناوب مع المجموعات من الشكل A.
اللحن .. من حيث الشكل والقالب
لم يتَّبع الأخوان رحباني القالب المشرقي لتلحين الموشحات ، كما تم تطويره في حلب ، و الذي يعتمد ، كما ورد في شرح قصيدة أقبل الصبح وغيرها ، لحناً أولاً يتكرر ، ثم لحن الخانة التي تشكل الذروة التلحينية التي ينفرد فيها المطرب ، ليتكرر اللحن الأول في الختام ، بل شكلا تطويراً له ، فجاء لحنهما في مدخل لحني للبيتين الأولين ( المجموعة A في قالب الموشح الشعري ) ، ثم في كتلتين تلحينيتين ، تشكلت كل كتلة من مجموعتين : B ثم A ، وفق ما يتبين من تتبع النص. وعلى عكس ما هو متداول في الموشح ، جاءت الذرى اللحنية ، على لحن مجموعة من الشكل A ، وهو شكل المدخل ، فيما يتطلب قالب الموشح عادة أن تكون الذروة اللحنية ( الخانة ) على نص المجموعة B . نلاحظ أيضاً أن الكورس تقاسم أداء الذرورة اللحنية مع فيروز ، في حين يؤدي المطرب الذروة اللحنية منفرداً ، أو بمساعدةٍ من الكورس ، في القالب التقليدي!.
أشير أيضاً إلى أن الأخوين رحباني ، عدّلا في النص ، للتخفيف من مباشرته!
النص
المدخل A
ســلسليها فالربيع ابتســـما * وحلا في الغاب رشف الأكؤس
بين أزهــار نديات اللمى * وحـنايا نـــاعمات الســـــــندس
الكتلة الأولى: على مقام البيات مع تلوينات مشكلة من مجموعتين B ثم A
المجموعة B
رحلت يا هند قطعان الغيوم * وانجلى الأفق بهيجاً عبقا
ودعا زَهر الربا زُهر النجوم * وبمرآة الـغـدير اعتنقا
سلسليها لوحت فيها الكروم * لفؤاد بهواك احترقا
المجموعة A
واشهدي ألوان شطئـان السما * بصفاها وصداها المؤنس
هند يا هند فدا عينيكِ ما * همس الخلدُ وما لم يهمس
****
تكرار المدخل A من الكورس
ســلسليها فالربيع ابتســـما وحلا في الغاب رشف الأكؤس
بين أزهــار نديات اللمى وحـنايا نـــاعماتِ الســـــــندس
****
الكتلة الثانية : على مقام الحجاز كار مع تلوينات مشكلة من مجموعتين B ثم A
المجموعة B
الفراشات سكارى والطريق * غارقٌ في الزهر موّاجُ الوشاح
سلسليها ظمئ الوادي السحيق * لطيوف الأدهر الأولى الصِباح
وارشــفي ياهند حتى نستفيق * عبر هذا الغاب في أبهى صباح
المجموعة A
سلسليها في ضميري * من فمٍ عذب المجال ألعسٍ
وليضق ذرعا بنصح الحكما * يا نُحولي أنتَ أزهى ملبس
****
تكرار المدخل A للختام
ســلسليها فالربيع ابتســـما وحلا في الغاب رشف الأكؤس
بين ازهــار نديات اللمى وحـنايا نـــاعمات الســـــــندس
تحليل اللحن
جاء اللحن حيوياً في إجماله ، فالموضوع مبدئياً يتغنى بالربيع ، عندما يبتسم ، و النص عابق بحماس المحب . من البداية رأيت أن اللحن دُرس بعناية لإيصال المعنى الذي رغبه الشاعر ، كما لاحظت أن كلمة سلسليها تكررت في جميع مشاهد الأغنية ، ولكن لحنها كان يتغير خلال التقدم في أداء الأغنية ، ما يدل على تخطيط دقيق للحن!
تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية عابقة بالحماس ، حماس المحب ، على مقام النهاوند ، ولكن إيقاع اللحن لا تظهره آلاتُ إيقاعٍ ، بل نبضٌ لخلايا اللحن الداخلية ، تعززه آلات التشيللو ، فيما برزت في المقدمة آلة القانون ، برنينها الصدّاح ، الذي يشيع في النفس بهجة وحماساً ، لتنتهي المقدمة بلمحة عابرة من آلة الناي ، وكأنها لسان روح المحب الذي يصور النصُ مقولته الأساسية : سلسليها.
جاء الدخول في الغناء جماعياً من الكورس ، كما في الموشحات ، لتعيد فيروز أداء المقطع ، في دخولٍ يبرز جمال صوتها ، المعبر في صفائه ، عن جمال الطبيعة في ربيعها النضر .. يبدأ الغناء بتخافض لحني مع علٍ يعبر عن كلمة سلسليها ، فيما قد نلحظ لاحقاً أن لحن هذه الكلمة عند تكرارها سيصبح متصاعداً بالتدريج ليعبر عن الإصرار ..
ينتقل اللحن إلى مقام البيات الشجي عند بداية الكتلة الأولى : رحلت ياهند ، مع مشهد تطريبي ، يصور الأجواء الجميلة المحيطة بالحبيبين ، ويبقى لحن كلمة سلسليها في هذا المشهد متخافضاً دون إصرار ..
في المشهد الأخير ، ينتقل اللحن إلى مقام الحجازكار ، عند بداية الكتلة الثانية : الفراشات سكارى . في هذا المشهد ترد كلمة سلسليها مرتين : الأولى يأتي لحنها ، على صوت فيروز ، المعبر عن حديث الشاعر المباشر ، متصاعداً بلطف ، في إصرار عابر ، لتأتي سلسليها الثانية ، من الكورس هذه المرة ، الذي يعبر ، على طول الأغنية ، عن رغبات الشاعر ، غير المفصح عنها بشكل مباشر للحبيبة ، خجلاً ، متصاعدة بوضوح ، في تعبير عن الإصرار ، تتبعها دعوةٌ من فيروز للتخلي عن نصح الحكما!
وهكذا بني اللحن بكامله على جمل لحنية عامة ، عبرت عن الربيع وعن الحماس وفيض العاطفة ، وعلى جمل لحنية مخصصة لكلمة سلسليها ، تطورت ، بين صوت الشاعر المباشر الذي تؤديه فيروز ، ورغبات الشاعر غير المفصح عنها ، التي عبر عنها الكورس ، من الدعوة إلى الإصرار ، فأبرزت بوضوح كيف خطط الأخوان رحباني لحنهما ، بشكل هندسي حقيقي ، فيما استطاعت فيروز بألق أدائها ، وصفاء صوتها ، أن تعمِّقَ خفر النص .. و بهاءه !
كالعادة ، وبما أن الأغنية أتت في تسجيل صوتي ، فقد وضعتُ لها صورة تعبر عن معانيها بأقرب مايمكن ..