لقبت فتحية أحمد ” مطربة القطرين ” لأنها كانت تسافر دورياً بين مصر والشام ، لتقدم أغانيها في إطار المسرحيات الغنائية ، التي كانت شائعة بين العشرينات والأربعينات من القرن الماضي . لحَّن لفتحية كبار الملحنين ، ورغم ذلك ، فقد اشتهرت لها أغنية واحدة هي ” يا حلاوة الدنيا ” من ألحان زكريا أحمد ، وأتت في سياق مسرحية ” يوم القيامة ” . استطاعت فتحية ، لفترة من الزمن ، أن تحتل المكانة الثانية بعد أم كلثوم ، و لكنها لم تستمر فيها طويلاً ، لأسباب قد تتضح بعد قليل. قامت بالغناء دون أن تظهر فى فيلم ” عايده ” عام ١٩٤٢ ، و كذلك في فيلم ” أحلام الشباب” عام ١٩٤٢ ، لتظهر مرة وحيدة ، وفي بطولة مطلقة في فيلم “حنان” عام ١٩٤٤ ،وهي تجربة لم تتكرر..!
قد يستغرب المرء أن مطربة اشتهرت في مجال المسرح الغنائي ، لم تجد لها مكاناً في السينما .. قد نفهم السبب ، إن تابعنا الأغنية التي أعرضها اليوم : يا ترى نسي ليه معادي وغاب؟ ، من كلمات أبو السعود الإبياري وألحان محمد القصبجي ، والتي أتت في سياق الفيلم .. في هذه الاغنية السينمائية سنكتشف كم خانها التعبير .. حركتها بطيئة ، و ملامح وجهها جامدة ، وغناؤها له بعد واحد ، لاعلاقة له بالمعاني .. وهي عناصر أساسية في السينما ، كما تطورت حتى منتصف الأربعينات .. فيما المسرح الغنائي ، في ظل الافتقاد للمايكروفون وتكبير الصوت ، كان يبحث عن الصوت القادر المجلجل المطرب ، وهنا كانت فتحية أحمد حاضرة ، لتوصل صوتها إلى متابعي المسرحية جميعهم ، وتطربهم ، و تحرضهم على الحضور مرة أخرى ، للاستمتاع بصوتها وقدراته .
نعم لقد كانت متطلبات النجاح في المسرح الغنائي ، مختلفة تماماً عن متطلبات النجاح في السينما .. ولذا فإنني أعتقد أن السينما ظلمت فتحية أحمد، عندما استقدمتها لبطولة فيلم لم يتكرر ، بل لعلها أثرت على قبول الجمهور لها لاحقاً. الظلم الثاني أتى ، من أن السينما لم تتح لها ، وقد أتت للسينما ، أن تقدم ما تتميز به .. الصوت القادر ، و المساحة العريضة ، و التمكن في أصول الغناء القديم .. ولذا ، ولرفع هذا الظلم عنها ، فقد رأيت أن أن أقدم لكم أغنية يا ترى نسي ليه معادي وغاب؟ في قسمين متتاليين : الأغنية السينمائية ، أولاً ، ثم أستكملها من تسجيلٍ للأغنية خارج السينما ، في المشهد الأخير منها ، عندما تأخذ فتحية حريتها ، فتؤدي هذا المشهد في تطريب وترجيع ، يبرز قدراتها الفائقة في هذا المجال ..
أما الأغنية ، وهي من ألحان الملحن المبدع محمد القصبجي ، فقد حفلت ، بالمقابل ، على عناصر التعبير ، الخفية و الظاهرة ، التي لم تظهر تماماً ، بسبب أداء فتحية التقليدي ، فكان أن ظُلمت الأغنية هذه المرة..
في عناصر التعبير الخفية
جاءت الأغنية على الإيقاع الثلاثي ، المشكل من نبضة قوية ونبضتين ضعيفتين ، وهو إيقاع شائع ومحبوب ، يماثل إيقاع الفالس الراقص في الموسيقى الغربية ، ولكن ملحننا المبدع ، ولإكساب هذا الإيقاع التوتر ، للتعبير عن توتر الإنتظار في مضمون الأغنية : يا ترى نسي ليه معادي وغاب؟ ، بدأ الغناء من النبضة الثالثة الضعيفة ، بدلاً من البدء بالنبضة الأولى القوية ، ما جعل الإيقاع يعرج ، وأصبح الجو العام للأغنية مشحوناً بتوتر خفي .. كما أكسب الإيقاع سرعة نسبية ، توافقت مع عنصر التوتر المطلوب! وفيما بعد ، وفي سياق اللحن ، لجأ القصبجي لتغيير الإيقاع ، للتعبير عن مضمون المشهد التالي ، ليعود إلى الإيقاع الثلاثي ” الأعرج ” لاحقاً ، ليبرز التضاد بين الإيقاعات. ألاحظ ، وعلى العكس ، أن المقاطع الموسيقية التي تؤديها الفرقة أتت على الإيقاع الثلاثي في نبضاته الطبيعية ، لتحقيق تضادٍ آخر يبرز عنصر التوتر في المقاطع الغنائية!
في عناصر التعبير الظاهرة
حفلت تضاريس اللحن الذي جاء على مقام النهاوند بارتفاعات وانخفاضات تعبيرية من البداية : تصاعد اللحن عند : يا ترى معبر عن السؤال ، تصاعده عند : وغاب ، معبر عن الاستنكار ، تخافضه عند : الحيرة : تحسر ، وارتفاعه عند : عذاب : استنكار ، تكرار : إيه اللي جرى ، و يا ترى ، معبر عن السؤال الأساسي الذي يجول في الخاطر .. تخافض اللحن عند : غير أحواله : تحسر ، تكرار سهران مع مين يا ترى ، بيسامر مين يا ترى ، مع تكرار اللحن معبر عن السؤال الأساسي .. والواقع أن اللحن معبر في مسالكه جميعها ، ولا يمكنني أن أسردها كلها .. ولكنها كما قلت ، لم تبرز كما يجب ، لافتقادها إلى الصوت المعبر عنها.. ولعل من المفيد التفكير في إعادة تقديم هذه الأغنية ، من قبل أحد الأصوات القادرة على إكساب الأغنية جرعة التعبير اللازمة ، لكي تظهر كما تصورها ملحنها محمد القصبجي!
بعد انتهاء القسم من الفيديو الذي حمل النسخة السينمائية ، ومدتها 3:33 ثانية ، استكملتُ الأغنية ، لأبرز قدرات فتحية أحمد في مجال التطريب ، ولأرفع عنها الظلم الذي حاق بها ، عندما دُعيت للسينما .. طبعاً كان لابد من ضبط الطبقة الموسيقية بين التسجيلين .. وهذا تفصيل خفي أيضاً ، كان عليَّ أن أقوم به ، لكي يبدو الاستكمال ، جزءاً من التسجيل السينمائي الأصلي ، ولكي أقدم الأغنية ، مثلما كانت تمنت فتحية أن تقدم ، لو رحمتها السينما ، وهو ما لم يحصل .. إلا اليوم!