كانت مظاهر التجديد ، في الموسيقى العربية ، خفية على المتابع العادي ، بُعيدَ الحرب العالمية الأولى ، لا يعرفها إلا المتابعون للتفاصيل اللحنية ، لتبدأ تلك المظاهر بالوصول إلى عامة المتابعين ، مع دخول الإيقاعات الراقصة عالم الغناء العربي ، على يد محمد عبد الوهاب ، في مشهدٍ من مشاهد أغنية مريت على بيت الحبايب على إيقاع التانغو ، ثم في فيلم الوردة البيضاء عام 1933 ، في أغنية جفنه علم الغزل ، على إيقاع الرومبا . ومنذ ذلك الحين ، اقتحمت تلك الإيقاعات الغربية الراقصة ، الألحان الشرقية واستقرت فيها . سيطر إيقاعا الرومبا و التانغو من البداية ، فيما بقي ايقاع البوليرو قليل الاستعمال ، منذ أن أدخله فريد الأطرش ، منتصف الثلاثينات ، في أغنيته أنساك وافتكرك تاني، ثم مدحت عاصم في لحنه لأسمهان : دخلت مرة في جنينة بمرافقة البيانو عام 1938 ، ثم السنباطي في بوليرو آه من العيون لعبد الغني السيد عام 1944 . ولم تكن الشام بعيدة عن تلك الأجواء ، ومن ذلك ما أنشره اليوم : أغنية نادرة بصوت المطربة زكية حمدان ، صاحبة قصيدتي : ” سلمى ” و “خلقت جميلة ” الشهيرتين ، على إيقاع البوليرو: حمَّلتنا يا هوانا ، من كلمات نور الدين بدور ، وألحان خالد أبو النصر ، الذي وضع أيضاً لنور الهدى : بوليرو ليلى.
البوليرو
البوليرو إيقاع خاص ، مرافق لرقصة عرفت بالاسم ذاته. عُرفت هذه الرقصة في اسبانيا منذ القرن الثامن عشر ، واعتبرت الرقصة الوطنية فيها. من أشهر الأعمال التي قدمت على هذا الإيقاع ، الباليه الشهير للموسيقار الفرنسي موريس رافيل الذي قدمه في عام 1928 ، فحقق شهرة عريضة لهذا الإيقاع ، ولعل هذا الباليه الشهير هو الذي عرَّف الملحنين العرب على هذا الإيقاع.
جاء لحن قصيدة : حمَّلتنا يا هوانا ” متأثراً ببوليرو رافيل ..
زكية حمدان
ولدت زكية حمدان في حلب عام 1925 برزت موهبتها منذ طفولتها ، أذ كان لصوتها الرخيم رنين خاص ، يميزه عن غيره من المطربات بسهولة . تعلمت على كبار الأساتذة في حلب ، غناء القصائد والموشحات والأدوار ، وعزف العود ، فيما علّمها والدها الفنان المسرحي حسن حمدان التعبير عن الكلمة المغناة . غنت زكية حمدان أيضاً من أعمال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ، التي شاعت في تلك الفترة ، وبالمقابل درست على يد الملحن وعازف البيانو أنطوان زابيطا ، الذي وجهها باتجاه المونولوجات الرومنسية ، ولحن لها بعضها ، ورافقها بالعزف على البيانو . في بداية الخمسينات اشتهرت لها قصيدتان ، من ألحان الملحن وعازف الكمان خالد أبو النصر ، وهما : سليمى من كلمات نوفل الياس ، و خلقت جميلة من نظم مدحة عكاش . انتقلت زكية حمدان لبيروت لاحقاً وتوفيت عام 1987 في الكويت.
الأغنية
جاءت الأغنية بتسجيل صوتي ، ولذا وضعتُ لها صورة ، تلائم الموضوع ، مثلما فعلتُ لأغنية فيروز : ربي سألتك باسمهِنَّ .. هنا كانت العملية أصعب بسبب ضرورة ضبط الإيقاع ، والسرعة ، في التسجيل الصوتي ، و في التسجيل البصري المضاف .. وبدت لي النتيجة مقبولةً..
تُفتتح المقدمة الموسيقية بتحديد الإيقاع : البوليرو ، ثم تأتي في أجواء راقصة على مقام العجم ، كما هو طبيعي ، نظراً لخلو هذا المقام من أرباع الأصوات ، لفرقة موسيقية تعتمد التوزيع الهارموني ” توافق الأصوات ” في الأداء ، ولكن بمجرد دخول زكية حمدان في الغناء ، تفرض خامة صوتها النادرة ، وأداؤها ، الذي أتى على مقام الراست الشرقي ، تداخلاً بين أجواء الغرب والشرق ، كما تتداخل خيوط النسيج ، فيما تغيب الموسيقى المرافقة التي تبرز فيها آلة البيانو ، لتفسح لها في المجال لتقوم بذلك ، نظراً لافتقاد البيانو القدرة على تنفيذ أرباع الأصوات ، أما في المقطع التالي ، وعندما تتداخل الموسيقى والغناء عند : لا يمسحون جراحاً ، في الدقيقة 1:18 ، فيعود الغناء إلى مقام العجم ، لتسهيل توافق الأصوات ( الهارموني ) ، إلى أن يتم الانتقال إلى مقام النوأثر ، بتمهيد من قبل آلة البيانو في الدقيقة 1:44 ، ليتوحد الغناء مع الموسيقى ، في أداءٍ حمل التوزيع الهارموني أيضاً ، لخلو مقام نوأثر من أرباع الأصوات ، ولكن شرقيته أبرزت شرقية اللحن ، رغم سيطرة إيقاع البوليرو.
حمل النص ، وهو للشاعر نور الدين مدوَّر ( وقيل بدور ) ، لعباً على الكلمات ، وتضاداً في المعاني ، على مستوى البيت الواحد : الهوى والهوان ، الأحبة والأذى ، السلام والحرب ، الدموع والدخان ، العزف والملل ، الأماني والأمان ، الشفاء والدواء ..
النص:
حمّلتنا يا هوانا صبابةً وهوانا
حكّمت فينا الأحبة فأسرفوا في أذانا
حمّلتنا يا هوانا صبابة وهوانا
***
لايمسحون جراحاً لا يضمرون حنانا
إذا طرحنا سلاماً يصلون حرباً عوانا
وإن نخرنا دموعاً ألقَوا عليها دخانا
***
كم قد عزفنا الأغاني لهم فملّوا غنانا
وكم نشدنا الأماني فما رأينا أمانا
***
فحسبكم يا أحبة وحسبنا ما تهانا
إذا أردتم شفانا فالقرب فيه دوانا
لا نبتغي الوصل نُكراً لكن نداوي جنانا
***
حمّلتنا يا هوانا صبابةً وهوانا