عرفت حلب غناء القصيدة منذ زمن بعيد ، واعتمدت أسلوبين للتعامل معها : أولهما أن تغنى مرتجلة من المطرب ، في غناء مرسل بدون إيقاع ، على مقام موسيقي يختاره ، حيث يُبرز قدراته الصوتية ، من حيث المساحة ، والقدرة على الارتجال ، والتمكن في تلوين المقامات ، واستثارة الطرب ، وثانيهما : تلحين القصيدة مع الإيقاع ، على قالب الموشحات التلحيني ، الذي استقر في حلب منذ أمد بعيد .
على الأسلوب الأول قدم الأستاذ صباح فخري قصيدته الشهيرة : جاءت معذبتي ، وهي للشاعر لسان الدين بن الخطيب ، ناظم موشح جادك الغيث الذي تابعناه قبل أيام ، وأتى لحن الأستاذ صباح لها على مقام العجم ، وثبُت لحنُها إذ تؤدى دائماً باللحن ذاته ، كما استمعنا إليها ، في زمن موازٍ ، بصوت الأستاذ منصور رحباني ، في التمهيد المشهور لغناء فيروز .. ثم غنتها السيدة فيروز لاحقاً ، من ألحان الملحن السوري الكبير محمد محسن.
نتابع اليوم هذه القصيدة ، بصوت المطرب الكبير الراحل محمد خيري ، الذي كان ثاني ثلاثة مطربين ، اشتهروا في حلب ، و امتلكوا فضاءات الغناء فيها ، في فترة الستينات والسبعينات ، و تميزوا بخامات صوتية آسرة ومتمايزة ، وهم : الأساتذة صباح فخري ومحمد خيري ومصطفى ماهر. طبعاً سبق لي نشر أعمال بصوت الأستاذ صباح فخري والأستاذ مصطفى ماهر واليوم أنشر هذا العمل للأستاذ محمد خيري.
القصيدة
من الاستماع للتسجيل المرفق أتوقف عند النقاط التالية : أولاً ، وظَّف محمد خيري 13 درجة صوتية واضحة لأداء قصيدته ، وهي مساحة صوتية واسعة ، تنقص درجتين صوتيتين عن الديوانين الكاملين ( 15 صوتاً ) ، خاصة إن علمنا أنها تركزت في المنطقتين المتوسطة والحادة من المساحة الصوتية الإجمالية ، وللموسيقيين أقول أن محمد خيري أدى المساحة من درجة الدو قرار إلى اللا نصف بيمول جواب ، فيما أتت المساحة التي وظفها صباح فخري ، في أدائه لذات القصيدة ، وفي تسجيل سجله في فترة زمنية موازية ، لضرورات دقة المقارنة ، مغطية ل 14 درجة صوتية واضحة ، فجال صوته بين درجة الري قرار ، والدو جواب ، أي أن طبقة صوت الأستاذ صباح أتت أعلى بدرجتين صوتيتين من طبقة صوت الأستاذ محمد خيري ، طبعاً في التسجيلين المقارنين ، فيما زادت المساحة الصوتية عنده بدرجة صوتية واحدة. ثانياً : جاء الأداء عند محمد خيري تطريبياً ، مع لمحات تعبيرية ، و كان لحنياً بعيداً كل البعد عن لحن الأستاذ صباح فخري ، إلا في موقعٍ عندما مر على مقام البيات ( فجاوبتني ودمع العين ) ، فيما جاء أداء الأستاذ صباح تطريبياً وتعبيرياً في الوقت ذاته. ثالثاً : بنى محمد خيري ارتجالاته أولاً على مقام الراست وتفرعاته ، إلا أن القصيدة أتت على مقام الماهور أساساً ، مع تفريعات ، فيما أتت القصيدة عند الأستاذ صباح فخري على مقام العجم ، كما أسلفت ، وهما مقامان متقاربان في الدرجات الصوتية ، مع بعض الاختلافات ، فكلاهما يبدأ من منطقة الأصوات الحادة ، معتمداً على السلم الصوتي ذاته ، ولكن الدرجات الصوتية ليست واحدة ، إذ تنخفض الدرجتان الثالثة و السابعة في مقام الماهور بمقدار ربع درجة صوتية فقط ، ومع ذلك فقد أتى اللحنان مختلفين ، وهو ما يُحسب للأستاذ محمد خيري ، في وقت كان المطربون من الدرجة الثانية يتبارون في تقديم القصيدة بلحن الأستاذ صباح فخري .. تماماً !
استعاض الأستاذ محمد خيري في القصيدة عن كلمة البحر بكلمة السفن .. ولا أعلم ما السبب!
تركزت المقارنة اليوم على المساحات الصوتية ، وأسلوب الأداء ، و اختلاف اللحنين والمقامين ، أما عن خامة الصوت وتضاريسه ، أو عفوية الأداء أو تخطيطه ، أو الاهتمام بالموهبة أو إهمالها ، فهذا موضوع يحتاج إلى وقفة خاصة..
يمكن الاستماع إلى التسجيل الصوتي الحامل لأداء الأستاذ صباح فخري :
ملاحظة:
الحديث دار هنا حول فترة الستينات والسبعينات .. في تلك الفترة كانت حلب تعتمد ثلاثة مطربين : صباح فخري ومحمد خيري ومصطفى ماهر .. وقد يتساءل البعض لماذا لم أذكر الشيخ صبري مدلل ؟ في تلك الفترة ، لم يكن الشيخ صبري معروفاً بشكل واضح ، إذ كان مجاله متركزاً على عمله مؤذناً في جامع العبارة بحلب ، وبعض الحفلات والسهرات .. شهرته أتت في الثمانينات ، عندما دعوته إلى دمشق برفقة الأستاذ محمد قدري دلال على العود ، حيث سجلا لصالح برنامجي التلفزيوني ” العرب والموسيقى ” ، ساعة كاملة من الغناء ، ثم عرفه الجهور السوري ، عندما بدأت مشاهد من ذلك التسجيل ، تجد مساراتها على شاشة التلفزيون العربي السوري ، في سياق حلقات ذلك البرنامج ، وهذا موضوع قد أكتب عنه يوماً ..