في منتصف الأربعينات من القرن الماضي ، كانت السينما قد غيَّبت المسرح الغنائي ، الذي كان شهد نجاحاً كبيراً ، منذ أن أرسى دعائمه ، في نهايات القرن التاسع عشر ، رائد المسرح الغنائي العربي : الشيخ أحمد أبو خليل القباني ، و نشَّطه وأغناه ، في بدايات القرن العشرين : سيد درويش و كميل شامبير و زكريا أحمد وغيرهم من الملحنين ، و بديع خيري و بيرم التونسي وغيرهم من كتّاب نصوص الأغاني والمسرحيات. استطاعت السينما نقل المشاهد التمثيلية من المسرح ، مستفيدة صعوبات حضوره ، وخاصة الافتقاد إلى تكبير الصوت ، وعدم وضوح الصورة لأغلب الحاضرين ، إلى قاعات سينمائية ، الصوت فيها جميل وواضح ، ناهيك عن وضوح الصورة لكل حاضر في القاعة..
أدخل محمد عبد الوهاب الحواريات والأوبريتات إلى السينما ، ليأتي فريد الأطرش و يسيطر على فضائها لمدة طويلة ، فيما تريثت أم كلثوم في دخول هذا المضمار ، مركزةً على الأغاني الفردية ، التي تبرز صوتها الساحر ، دون أي مشاركة ، ليأتي فيلم عايدة عام 1942 ، كما رأينا في نشرة سابقة ، فتقدم فيه حوارية إحنا إحنا لوحدنا ، مع ابراهيم حمودة ، ثم أوبرا عايدة التي لم تنجح ..
بعد فشل فيلم عايدة ، لأسباب عرضت لها سابقاً ، رأت أم كلثوم أن تعود سينمائياً إلى أجواء الأصالة ، وإلى صوتها دون أي مشاركة ، فاستعانت بزكريا أحمد ، لتجربته اللحنية الثرية ، و لتمرسه في المسرح الغنائي ، ليلحن لها أغاني فيلمها الجديد : سلاّمة ، عام 1944. ضم الفيلم مشهداً تمثيلياً قصيراً ، شاع فيه أجواء المسرح الغنائي ، ولكن لصوت واحد ، مع حوار بدون لحن ، و غناء جماعي .. إنه مشهد سلام الله على الأغنام .
كتب المشهد بيرم التونسي شريك زكريا أحمد ، و جاءت أجواؤه حافلة بالتناقضات في المواقف ، ليعالجها صوت أم كلثوم ، فعندما توصف براعية الغنم ، تحوِّل الحاضرين إلى أغنام ، و عندما يغادر عمر ابن أبي ربيعة لرفضه أن يعدَّ من الأغنام ، تستطيع تحويل موقفه إلى ندم واعتذارّ!
جاء اللحن على مقام شوق أفزا ( بالعربية مزيد الشوق ) ، وهو من فصيلة مقام العجم ، ويتشكل من اجتماع حنسي العجم والحجاز و يعرف عند الملحنين بأن أجواءه ، كما يدل اسمه ، تعبر عن لوعة المشتاق ، فيما قدمه زكريا أحمد المبدع ، في أجواء بعيدة ، تتلون فيها المواقف وتغلفها الطرافة!
استطاعت أم كلثوم أن تؤدي الدور ببراعة ، سواء على مستوى التعبير الصوتي ، في تغير أدائها السلس من اللين إلى اللطف إلى الحزم إلى التهكم ، أو التمثيلي ، حيث تتغير تعابير وجهها مع كل موقف جديد!
تقول الكلمات ، بعد مقدمة موسيقية حيوية ، تجذب الانتباه وتمهد لدخول أم كلثوم ، و هي هنا تتواءم مع المقدمات الموسيقية الحيوية في المشاهد المسرحية ، التي تسعى تجذب انتباه الجمهور:
سلام الله على الحاضرين من الصاحيين إلى النايمين // تعبير : عند الصاحيين تصاعد اللحن و عند النايمين تخافضه
لكل مقام سلام وكلام سلام الله على الأغنام // تخافض اللحن عند كلمة الأغنام لأن المخاطبين والذين تعدهم أغناماً جالسون على الأرض
تقولوا معايا على الهربان بتهرب ليش من الرعيان //إشارة إلى خروج أبي ربيعة
رعينا الغنم وسقناها وكان بالعصا ضربناها
لقينا الغنم تحب الطرب ولو تنشتم ولو تنضرب / لماذا خرج فالغنم تحب الطرب و لو تنشتم / تعبير لحني في تصاعد اللحن عند ولو تنضرب للتعبير عن التضاد بين الطرب والضرب وعن زيادة الأذى من الشتم إلى الضرب
فلا فحلها قليل الأدب ولا كبشها سريع الغضب / شبهت أبي ربيعة بالفحل وبالتالي أعطته المكانة بين الحاضرين ما جعله يقرر العودة
سلام الله على الأغنام
………………………….
يبوس القدم ويبدي الندم
على غلطته في حق الغنم
………
عن العشاق سألوني * وأنا في العشق لا أفهم
سمعناهم يقولوا العشق * حلو حلو وأخره علقم
سهاد في الليل وليل على ويل * وشيء منه العذاب ارحم / سهاد في الليل ممتدة للتعبير على الإحساس بطول الوقت بسبب السهاد في الليل
ومن أعلن هواه يتعب * ومن خبا هواه يعدم
قولوا قولوا مين من العاشقين * وهب قلبه ولم يندم
عن العشاق سألوني * وأنا في العشق لا أفهم
عن العشاق لا نسأل * وخلينا بعيد بعيد أسلم
ضم المشهد إذاً فضاءاً صوتياً خاصاً بأم كلثوم : أغنية عن العشّاق سألوني ، غلفه التعبير على مستوى الكلمة الواحدة ، و التطريب ، لتأتي القفلة الأخيرة ، التي جاءت كقفلات أغانيها على المسرح .. التي تشعل الجمهور طرباً!
رغم نجاح المشهد .. لم تعد أم كلثوم إلى المشاهد التمثيلية السينمائية ، التي تحتوي على الحوارات ، و على تلوين المواقف ، لتغادر عالم السينما عام 1948 .. وتكتفي بالمسرح!
كوكب الشرق الهرم الرابع لمصر وللوطن العربي صوتها القادر لن يجود الزمان بمثله..رحمها الله وأسكنها فسيح جناته..شكراً لك د.سعد على إحياء ذكرى صوت باقٍ على مدى الأجيال.
كل الشكر لهذه الجهود الراقية في التعريف بتراثنا الغني