منذ زمن بعيد ، عودت نفسي ، رغم مشاغلي المتنوعة والمتباعدة ، على أن أختار كل يوم عملاً موسيقياً أو غنائياً أستمع إليه ، وأسجل خواطري حوله .. أشرككم اليوم في ما استمعت إليه مؤخراً : موشح غلب الوجد عليه فبكى ، للأستاذ حليم الرومي ملحناً و ومطرباً ومعبراً ، و الشاعر محمود سامي البارودي باشا ، ناظماً للقصيدة التي حولها الرومي إلى موشحٍ ذي أهمية استثنائية.
كل موشح له نقطة تفرده ، فمن الموشحات ما يتميز بتلويناته المقامية ، ومنها ما يتميز بموضوعه ، ومنها ما يتميز بإيلاء المطرب دوراً أساسياً على حساب الأداء الجماعي .. أرى أن موشح غلب الوجد عليه فبكى تميز ، إلى جانب الأداء التعبيري الذي غلفه ، في بنائه المركب الذي أراد منه ملحنه ومغنيه ، حليم الرومي ، أن يستوعب أغلب قوالب التلحين العربية ، في تلوينٍ للأجواء اللحنية ، تعوض تركيز النص على موضوع واحد، يفتقد العناصر الدرامية التي حفلت بها قصائد عصر النهضة الموسيقية ، إذ تركز ، أي النص ، على وصف العاشق لحالته! وهو ما كان ملائماً للعصر الذي عاشه ناظم القصيدة الشاعر البارودي ، الذي عاش بين عامي 1839 و1904 ، فيما كان من الممكن البناء على قصيدة حديثة أكثر درامية ، لتشكيل لحن جميل كما لحن الموشح ، و لبناءٍ قُصد منه إجمال تطور القوالب في فترة نهضة الموسيقى العربية التي لم يعشها البارودي.
بني الموشح على مقام رئيسي هو مقام العجم ، و مقام ثانوي هومقام الكـرد ، حيث تماوج اللحن بينهما ، وبين درجات استقرارهما ، في مسار تيار تعبيري تطور في فترة النهضة الموسيقية العربية ، سبق أن أشرت إليه قبل بضعة أيام ، في أغنية فيروز والأخوين رحباني: تعا ولا تجي ، التي سارت المسار المقامي ذاته الذي أتى في هذا الموشح ( عجم وكرد)..
استقى بناء الأغنية من القوالب التلحينية التالية: الموشح والقصيدة الكلاسيكية والقصيدة الحديثة والمونولوج والدور
من الموشح : القالب الأساسي اللحني حيث يبدأ اللحن بفقرة لحنية وينتهي بها ، مع وجود ذروة لحنية قبل الختام ، ولذا اعتُبر موشحاً ، وكذلك توظيف الأداء الجماعي بشكل مؤثر في الأغنية.
من القصيدة الكلاسيكية : الجملة اللحنية تبدأ بالشطرة الأولى من البيت وتنتهي بالشطرة الثانية ولا تمتد على أكثر من بيت واحد ولا تتقاطع مع الموسيقى ، في خلاف واضح مع قالب الموشح – خانة الموشح أتت مشكلة من عدة أبيات لحنت على أسلوب تلحين القصيدة الكلاسيكية
من القصيدة الحديثة : المقدمة الموسيقية متعددة الفقرات اللحنية والإيقاعات – المقدمات الموسيقية الداخلية ، وقد أتت هنا في منتصف خانة الموشح – المقدمة الموسيقية التي تأتي في ختام القصيدة لإقفالها ، وفق ما أرساه عبد الوهاب منذ بدايات الأربعينات للقصيدة الإذاعية
من المونولوج الرومنسي : الغناء المرسل دون إيقاع ، وزيادة الجرعة الموسيقية في العمل .
من الدور : أسلوب الهنك ، أي تكرار الكورس ( المذهبجية ) لجملة لحنية ، فيما ينفرد المطرب في كل تكرار بارتجال ذوقي ، يبرز فيه قدراته الصوتية ، ومعرفته في تلوين المقامات .
جاء أداء حليم الرومي والكورس تعبيرياً على مستوى الكلمة وتطريبياً ومقونناً على كامل مساحة الأغنية .
جاءت المقدمة الموسيقية في ثلاث فقرات لحنية : الأولى نشطة سريعة على إيقاع الفالس ، والثانية راقصة على إيقاع السامبا ، مع انفراد للناي في الأداء ، ثم ثالثة تمهيدية للغناء على إيقاع الوحدة الكبيرة
الـدور الأول:
غلب الوجد عليه فبكى وتولى الصبر عنه فشكا
وتمنى نظرة يشفي بها علة الشوق فكانت مهلكا
الـدور الثاني: لحن مختلف – يخالف قالب الموشح ويتبع قالب القصيدة:
نظرة ضمّ عليها هُدبه ثم أغراها فكانت شَرَكا
غرست في القلب مني حبه وسقته أدمعي حتى بكا
الخانة : مشكلة من عدة أبيات وفق أسلوب القصيدة – إبراز الهنك – موسيقى في منتصف الخانة – غناء مرسل في ختامها:
إن طرفي غرّ قلبي فمضى في سبيل الشوق حتى هلكا
قد تولّى إثر غزلان النقا ليت شعري أي واد سلكا
يا غزالاً نصبت أهدابه بيد السحر لقلبي شبكا / الختام مرسل من قالب المونولوج
موسيقى للكمان ومقدمة موسيقية تعبيرية
يا غزالاً نصبت أهدابه بيد السحر لقلبى شبكا
قد ملكت القلب فاستوص به إنه حقٌ على من ملكا
الكورس:
لا تعذبه على طاعته بعدما تيّمته فهو لكا
لازمة موسيقية للعودة إلى مقام العجم على لحن الـدور الأول
الغطاء: تكرار اللحن الأول من قالب الموشح
فإلى من أشتكي ما شفّني من غرام وإليك المشتكى
سلكت نفسي سبيلاً في الهوى لم تدعْ فيه لغيري مسلكا
ويختتم الموشح بغناء مرسل، تمهيداً للدخول في تكرار المقدمة الموسيقية التي أتت في البداية ، على إيقاع الفالس ، فيما تنتهي الأغنية ، وفق أسلوب عبد الوهاب في تكرار المقدمة الموسيقية ، في نهاية قصائده الإذاعية ، منذ بداية الأربعينات ، كما أسلفت..
أقول في الختام أن الأستاذ حليم الرومي ليس بالضرورة ملحن موشحات ، ولكنه ، أجمل في هذا الموشح ، تجربته الموسيقية ، دون أن يتقيد بعناصر الموشح جميعها .. لقد أدخل إيقاع السامبا على الموشح ، ولم يستخدم إيقاعات مركبة أو عرجاء .. قصده لم يكن تلحين موشح ، بل إجمالٌ لتجربته الفريدة والجميلة والتعبيرية والأدائية ، ورسالةٌ بأن التطوير يمكن له أن يجد طريقاً إلى الناس عبر خلايا إطار تقليدي!