في عام 1957 قدمت فيروز أغنية ذات لون خاص .. مروج السندس .. من كلمات وألحان الأخوين رحباني. جمعت الأغنية عناصر فريدة متباعدة ، أتى انسجامها تجريبياً ، غلّفه صوت فيروز بدفء وحنان .. ولكنها تضمنت عنصراً غير مسبوق ، ينُسب حتى اليوم إلى محمد عبد الوهاب! أولاً بليغ حمدي ثانياً ، و لذا كان لابد من إيضاح الموضوع .. للتاريخ.. وتوخياً للمصداقية .. وإليكم التفاصيل:
أتى نص القصيدة ، أولاً ، في أربعة مسامع ، كل مسمع مؤلف من 44 أبيات ، على وزن موحد وروي موحد ، ويتغير الروي في المسامع الثلاثة الأولى ليعود في المسمع الأخير إلى روي المسمع الأول . اعتمد النص الإلماح إلى المعاني في خفر وحياء ، بما يتوافق مع صورة فيروز كأيقونة ، لا تتعامل مع المعاني المباشرة ، فيما عوضت الموسيقى ، فعبرت عن هيجان العواطف ..
تبدأ المقدمة الموسيقية بتصاعد انفعالي ، يصف الشوق للقاء في المكان المؤنس ، حيث يهدأ اللحن عند اللقاء ، ثم يدخل في إيقاع يعبر عن مجريات اللقاء ذاته ، مع إبراز عابر لمقام السيكاه الأصلي ، نادر الاستعمال ، مصوراً في غير موقعه ، فيما يضفي غرابة على اللحن ، متقاطعاً في تغريدات الفلوت ، المعبرة عن تغريدات الكنار ، التي ترد في نص المسمع الثاني ، فيما هناك ، أي في مقدمة المسمع الثاني ، ستقوم آلات الكمان بالتعبير عن التغريدات . أتى اللحن عموماً على مقام الهزام الشرقي ، مصوراً على درجة السي نصف بيمول ( يسمى في موقع الأداء راحة الأرواح ) أي على ثلاثة أرباع الصوت ، كما مر اللحن على تفريعات عديدة لهذا المقام ، وكأنه استعراض لألوانه ، فيما عولج اللحن هارمونياً ، في تزاوج كان نادراً في تلك الأيام ، بين الهارموني والمقامات الشرقية ، ما يمكن اعتباره ، من جهة ، تعبيراً للمرة الثانية عن معاني اللقاء ، وتدريباً صعباً على المعالجة الهارمونية لعدد من المقامات الشرقية ، من جهة أخرى . حفل اللحن بالقفزات اللحنية ، التي تعبر أيضاً عن فيض العواطف .. والغرابة .
جاء لحن المسامع المغناة متبعاً أسلوب تلحين القصائد الكلاسيكي ، في استمرار الجملة اللحنية على طول البيت ، دون تقاطع مع الموسيقى ، ولكن الجرعة الموسيقية في مرافقة الغناء وفي المقدمات الموسيقية ، كانت كثيفة تماماً.
لنأت الآن إلى نقطة هامة ، تتصل بالنقلات المفصلية في تاريخ الموسيقى العربية ، عندما أدى الأكورديون في هذه الأغنية وفي عام 1957 ، لأول مرة في الموسيقى العربية درجة صوتية تتشكل من ثلاثة أرباع الصوت ، وذلك في الدقيقة 1:20 من التسجيل ، أي في بداية المسمع الثاني ، إذ تم تعديل الصوت الصادر عن أحد الملامس في الأكورديون ، ليؤدي درحة سي نصف بيمول ، وهي درجة استقرار مقام الهزام الشرقي مصوراً عليها ، بسبب عدم قدرة الأكورديون في شكله الأصلي ، على أداء المقامات الشرقية ذوات أرباع الأصوات ، فيما يمكن عدُّه سبقاً للأخوين رحباني ، حيث شددت أدبيات الموسيقى العربية ، على أن أول توظيف للأكورديون في المقامات الشرقية أتى على يد محمد عبد الوهاب عام 1962 في أغنية هان الود ، في تنفيذ مقام البيات ، ثم على يد بليغ حمدي في أغنية سيرة الحب لأم كلثوم عام 1964، في تنفيذ مقام راحة الأرواح ، بينما أسجل هنا أن الأخوين رحباني سبقا إلى ذلك في أغنية مروج السندس عام 1957 . ملاحظة للموسيقيين : مرَّ اللحن على درجة لا دييز عبر الأكورديون ، وكان الأصح لا نصف دييز ، لإبراز مقام السيكاه الأصلي في موقع تصويره ، ولكن هذا كان سيتطلب تعديل صوت ثانٍ في الأكورديون .. وهو ما لم يتم!
جال اللحن في أجواء لحن منصور رحباني لقصيدة شال في المسمع الثالث ، الذي أتى على مقام النهاوند ،حيث عبر الأكورديون هذه المرة عن حركة البلبل ، من خلال نقلات صوتية قصيرة وسريعة . أنا أميل إلى إرجاع لحن مروج السندس لمنصور أيضاً . نُشرت هذه الأغنية بعد عقود من تسجيلها في ألبوم هموم الحب 1995 ، ويقال بأن لها نسخة نعود إلى عام 1954 ، على عادة الأخوين في تكرار التسجيل لبعض الأعمال ، ولم يتح لي التثبت من هذا .
أنا أعتبرهذه الأغنية تجريبية من الناحية الموسيقية ، في إضفاء التوزيع الهارموني على المقامات الشرقية ، وفي توظيف الأكورديون لتنفيذها ، ولكن صوت فيروز ينسيك التجارب ، ويفسح لك في المجال للاستمتاع بسحر الأداء ، وأعتقد أن مقومات صوت فيروز ، سمحت للأخوين رحباني بالكثير من التجارب ، دون أي خشية من فشل التجربة! ولكن طغيان صوت فيروز الآسر ، غطى على وهج تجارب إبداعية ، كان لابد من تسليط الضوء عليها .. وهكذا كان.
مروج السندس أغنية طغى صوت فيروز فيها على الكثير من مفاجآت التجريب ومنها ما يخالف المستقر في الأذهان!
Bookmark the permalink.