البارحة ، مرت الذكرى الثالثة والخمسون لولادة فرقة الموسيقى العربية ، بقيادة الأستاذ عبد الحليم نويرة … إذ قدمت الفرقة حفلها الرسمي الأول في يوم 22 شباط / فبراير 1968. وبهذه المناسبة أنشر الدراسة التالية ، التي كنت كتبتها عام 1994 ، ونشرت في صحيفة الرأي العام الكويتية ، في الذكرى السادسة والعشرين لولادة الفرقة ، بعنوان : الغناء الجماعي .. هل سيكون الناشر الوحيد للتراث؟
طبعاً ، ومع توفر الإمكانات التكنولوجية ، أضفت شواهد من أعمال فرق الموسيقى العربية المذكورة في النص ، و مقتطفات من برنامجي العرب والموسيقى ولقاءً مع الأستاذ عبد الحليم نويرة تم بثه على شاشة التلفزيون العرب السوري في عام 1969 ، وهو ما لا تتيحه أساليب الطباعة الورقية..
في مساء الخميس الواقع في الثاني والعشرين من شهر شباط /فبراير من 1968 ( بعد ثمانية أشهر من نكبة حزيران ، وفي ذكرى الوحدة بين مصر وسورية ) ، قدمت فرقة الموسيقى العربية ، التي عرفت أيضاً نسبة إلى قائدها الموسيقار عبد الحليم نويرة، حفلها الأول في قاعة سيد درويش القاهرية ، فأرست بذلك دعائم مدرسة جديدة في الغناء العربي ، اعتمدت على الغناء الجماعي شكلاً ، وعلى تقديم التراث بشكل معاصر مضموناً .
اليوم .. وبعد ستة وعشرين عاماً ..أصبح الغناء الجماعي الأكثر تواجداً لتقديم التراث الغنائي العربي ، بعد أن ظهرت عشرات الفرق الغنائية في غالبية الدول العربية ، متبعة نهج تلك الفرقة الأم ، لتقدم كل منها رؤيتها الجديدة ،ضمن هذه المدرسة، ولتؤكد ، عبر تنوعها وتعددها،على نجاح الخط الذي سنته فرقة الموسيقى منذ عام 1968.
الغناء العربي الأصيل فردي الطابع
فيما عدا بعض مظاهر الغناء الجماعي ، الموجودة في قوالب الغناء العربي الأصيل ، حيث يتناوب المطرب الغناء مع مجموعة ( المذهبجية أو الرديدة أو السنيدة )، كما في الموشح (بشكله المشرقي) والدور والطقطوقة،أو في أداء النوبة الأندلسية من قبل مجموعة من المغنين بأسلوب جميل أصيل ، أو في الأغاني الشعبية التي يتغنى بها الناس في سهراتهم ،أو في بعض المسرح الغنائي ،فيما عدا هذا وقبل تأسيس الفرقة ،كان الغناء العربي يتميز أصلاً بالفردية ،وبالاعتماد على مقدرة المطرب على استعراض إمكاناته في مجال الارتجال ، و في توليد الطرب لدى المستمع ،والتجاوب مع طلبات الجمهور في التكرار ، حيث يقدم في كل مرة تغيرات لحنية ، تستثير استجابة المستمع المطلع.
واقع جديد ..اتصال مكثف بالغرب
إلا أن الاتصال المكثف للعالم العربي بالغرب ، خلق مناخاً جديداً ، تكون من خلال :
1- زيادة عدد الدارسين الموفدين إلى أوربا طلباً للعلم ،حيث أتاح لهم ذلك الإطلاع على أساليب تقديم الموسيقى الكلاسيكية، ومختلف مدارسها ،والاستماع الهادئ الذي تتميز به ،خاصة أن عدداً أوفد أصلاً لدراسة تلك الموسيقى تحديداً ، ليعود وينشرها في بلاده عبر الفرق السمفونية والكورالية .
2- قدوم العديد من الفرق الكلاسيكية لتقديم حفلاتها في العالم العربي . وقد حقق هذا ،إضافة إلى أسباب أخرى ، انجذاب شريحة كبيرة من المثقفين العرب إلى الموسيقى الغربية ،سماعاً وتشجيعاً وأداءً.
ندرة الأصوات الجميلة والقادرة على أداء قوالب التراث الغنائي العربي
لاحظ العديد من الموسيقيين العرب ممن أحبوا الموسيقى العربية هذا الواقع، وتوقفوا أيضاً عند ندرة الأصوات الجميلة ، القادرة على تقديم التراث الغنائي العربي ، خاصة في مصر ، بما يتطلبه ذلك من مساحات صوتية ،ومعرفة في صنعة الغناء ،بحيث نتج عن ذلك انقطاع التواصل المطلوب بين الشعب وتراثه الموسيقي . وزاد في الموقف حرجاً ، أن الشعب العربي شعبٌ شاب ، ولد ثلثاه على الأقل بعد انقضاء الفترة الذهبية للغناء العربي ، التي استمرت منذ نهايات القرن التاسع عشر وامتدت حتى منتصف القرن العشرين ، مما أوضح أن عدم نشر التراث الغنائي سينتهي به حتماً إلى الضياع والنسيان.
أسلوب جديد للغناء
وهكذا تجمعت الأسباب للتفكير في شكل جديد لتقديم الموسيقى العربية والغناء العربي ،يمكن أداؤه عبر الأصوات المتوفرة ، ويحقق النشر المطلوب للتراث من جهة ، و الاقتراب من الشكل الغربي الجماعي ، لتقديم الموسيقى ، من جهة أخرى .وكان لابد من أن يرتبط هذا الأسلوب الجديد بقائد للفرقة ، هو المسؤول عن كل صغيرة وكبيرة ،وكأنه المخرج في السينما ،حيث يقدم الغناء في إطار للاستماع منضبط ، يحقق الهدوء التام ولا يسمح فيه بالتصفيق إلا في اللحظة الملائمة ، ولا يقدم ضمنه إلاّ ما هو مقرر سلفاً ،ولا يؤدى إلا في صالات استماع ملائمة،اعتماداً على مجموعة من الأصوات المؤدية . أما في المضمون ، فقد اتفق على أن يكون البرنامج المقدم مختارات من التراث الغنائي العربي في قوالبه المهددة.
نتابع هنا من أعمال فرقة الموسيقى العربية بقيادة الأستاذ نويرة دور كادني الهوى من ألحان محمد عثمان.
تأسيس فرقة الموسيقى العربية
وفعلاً ، وبعد إقرار هذا الأسلوب ، تم تأسيس فرقة الموسيقى العربية في خريف عام 1967 ، وتم تقديم أولى الحفلات التجريبية في 21 كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه ،وافتتحت الفرقة موسمها الرسمي الأول 22 شباط / فبراير عام 1968 كما أسلفنا.
قائد للفرقة ذو مواصفات محددة
كُلف الأستاذ عبد الحليم نويرة بقيادة الفرقة ،وهو موسيقي موهوب ،حقق بتكوينه العلمي الشروط المطلوبة لتحقيق المعادلة الصعبة بين التراث والمعاصرة ، والتي تتطلب موسيقياً عربياً دارساً للموسيقا العربية ومحباً لها من جهة ، ودارساً للموسيقا الغربية ومحباً لأساليبها من جهة أخرى .وفعلاً توفر هذان الشرطان في الأستاذ نويرة، فقد درس الموسيقى العربية في معهد الموسيقى العربية في القاهرة ًأولاً ، وتخرج عام 1935 ، حيث درس الموشحات على يد كبير أساتذتها الشيخ درويش الحريري ، ودرس وحفظ الأدوار على يد الأستاذ فؤاد الاسكندراني ، الذي كان قد رافق الفنان الشهير عبده الحمولي في مسيرته الفنية الزاهية، كما درس التاريخ الموسيقي على يد الباحث الكبير الدكتور محمود أحمد الحفني . هذا من جهة الموسيقى العربية ، أما من الموسيقى الغربية فقد درسها على يد أساتذة أجانب ، حيث درس التأليف الموسيقي على يد ميناتو بوميو ، والبيانو على يد شيرينافسكي ، وعلم الجمال والتوافق على يد تيودور أورلوفسكي .
لنتابعه في هذا المشهد المقتطف من لقاء أجراه معه الأستاذ خلدون المالح على شاشة التلفزيون العربي السورية في عام 1969 حيث سأله عن الغاية من تأسيس فرقة الموسيقى العربية..
مهمة صعبة
ولم تكن المهمة سهلة ، فالألحان العربية تتميز بالزخارف والتلوينات اللانهائية التي تحقق لها التميز والجمال ، لدرجة أن أية أغنية من التراث، عندما سجلت قديماً ولأكثر من مرة ، وبسبب ارتجال المطرب المؤدي ،كانت في كل نسخة مختلفة عن نسخة أخرى أداها نفس المطرب أو مطرب آخر ،بحيث أصبح تحديد البنية الأساسية للحن مهمة شاقة ، إن لم تكن مستحيلة ،في حين أن الأداء الجماعي لا يمكن تحقيقه إلا عبر لحن بنية أساسية واضحة ، مضبوط بكافة تفاصيله ، يؤديه الجميع بتطابق تام .
النجاح.. عبر الانضباط الكامل والأداء الرصين
قام الأستاذ نويرة بهذا العمل المضني الشاق،الذي نتج عنه تحديد البنية الأساسية للألحان ،وتحديد عدد مرات التكرار لكل جملة ،وأساليب التلوين الممكنة ضمن أداء جماعي . أوضح عملُه ضرورة تبسيط الألحان في كثير من الأحيان ، وإلغاء تلويناتٍ جميلةً بسبب عدم مقدرة مجموعة المؤدين على تنفيذها جماعياً وبشكل منضبط ،كما كان لابد من توزيع الألحان الأصيلة الممتدة لحنياً على مساحة صوتية واسعة ، والتي كانت تؤدى من قبل صوت واحد قادر ،على مجموعة الرجال ومجموعة النساء لضمان حسن الأداء ،مما نتج عنه بالتالي تحول وظيفة المغني من مرجع أساس ، تقع على عاتقه مسؤولية الأداء الكامل في الغناء الفردي ، مع ما يتطلبه هذا من صنعة وحرفة ومقدرة صوتية ، إلى دور آخر ليس فيه من الأهمية بمكان أن تكون صنعة المؤدي قوية ، ولا مقدرته على التلوين مطلوبة ، المهم هو الأداء الصحيح ، والانضباط الكامل مع بقية عناصر المجموعة.وانتقل الانضباط الكامل إلى الفرقة الموسيقية المرافقة، حيث لم يعد عازف القانون هو القائد ، ولم يعد هناك سماح بارتجالات في مصاحبة الغناء ، بل أصبحت مهمة عازفي الكمان مثلاً صعبة جداً ، لأنه طلب منهم ، ولأول مرة، تحقيق حركة منسجمة ومتماثلة للأقواس ،ضمن أداء مرسوم ومحدد للألحان تؤديها الفرقة الموسيقية في نظام دقيق وصارم ، لا يسمح فيه إلا لضارب الإيقاع ببعض الحرية في التلوين . كمثال على هذا الشكل من الانضباط في أداء قصيدة غنائية تعتمد أساساً على الارتجال ، نتابع قصيدة أراك عصي الدمع من ألحان عبده الحمولي كما أدتها فرقة الموسيقى العربية بقيادة الأستاذ عبد الحليم نويرة.
تحقيق التنوع الممكن
وتم تقديم برامج متنوعة أساسها وغايتها توثيق التراث الغنائي العربي وتقديمه بشكل معاصر عبر الأداء الجماعي ، ولكن هذا الأسلوب الجديد أدى إلى تغير في شكل استقبال العمل الغنائي لدى الجمهور .فبعد أن الغناء وسيلة لتحقيق الطرب لدى المستمع ، عبر استجابته لارتجالات مفاجئة ،أصبح الإصغاء غاية بحد ذاته ، يحقق لدى المستمع الإعجاب بجمال الألحان ،وانضباط الأداء.
الاقتراب من المستمع التقليدي
ولاحظ الأستاذ نويرة أن هذه المعادلة التي حققها ، كانت صارمة بعض الشيء . لقد حققت إعجاب الشرائح المثقفة والشابة ،ولكنها أدت إلى عزوف المستمع التقليدي الباحث عن المفاجأة والطرب والتلوين . وهكذا ولدت المجموعات الصغيرة ، ضمن الفرقة ، ابتداء من عام 1972 ، لتؤدي أحياناً دور المطرب القديم ، كما تم إدراج دور لعازفين منفردين ، كعازف القانون الشهير عبد الفتاح منسي ،للمشاركة في الحفلات في ارتجالات جميلة تحقق لدى المستمع ،المتشوق للأسلوب القديم ، بعض ما يرغب. نتابع هنا أداء الفرقة لأغنية ليه يا بنفسج من ألحان الأستاذ رياض السنباطي و نلاحظ أن أغصان الأغنية تؤدى من قبل اثنين من عناصر الفرقة.
تكريم لاحق أسس لمهرجان سنوي مازال مستمراً حتى اليوم
في عام 1992 أقامت دار أوبرا القاهرة مهرجاناً كبيراً في احتفاء بمرور 25 عاماً على تأسيس فرقة الموسيقى العربية. أشرفت الدكتورة رتيبة الحفني على المهرجان و دعتني لحضوره. إليكم حديثي التلفزيوني على شاشة التلفزيون العربي السوري حول المهرجان بعد عودتي من القاهرة.
ناتج صحيح .. ولكن
اليوم ، وبعد ستة وعشرين عاماً مضت على تأسيس الفرقة ، نقول : لقد نجح النموذج الذي قدمه الأستاذ عبد الحليم نويرة ، والدليل ، عشرات الاسطوانات التي سجلتها الفرقة ، موثقة عدداً كبيراً من الأعمال الغنائية والموسيقية العربية ،والعدد الضخم من الحفلات التي أقامتها الفرقة في جميع أنحاء العالم العربي ،ومن ثم تشكيل العديد من الفرق الغنائية التي سارت على نفس المنهج في مصر وسورية ولبنان وغيرها من الدول العربية . ولكن هذا لا يمنع من التذكير بأن أسلوب الأستاذ عبد الحليم نويرة كان يتميز بتقديم الأعمال والقوالب الغنائية التقليدية التي كانت شائعة في بدايات القرن العشرين كالأدوار والموشحات والقصائد حصراً ، دون أن يعنى بتقديم الإبداعات الغنائية التي ظهرت بعد ذلك ، كما أنه ابتعد تماماً عن تقديم الأصوات الفردية في فرقته ، في غالب الأحيان.
الرؤية الثانية..
هنا يبرز دور فرقة أم كلثوم (للغناء الجماعي) التابعة للمعهد العالي للموسيقا العربية في مصر والتي أسستها في عام 1973 الدكتورة رتيبة الحفني عميدة المعهد في تلك الفترة ،وقادها الموسيقار حسين جنيد.
اعتمدت هذه الفرقة على طلاب المعهد ، وآمن الأستاذ حسين بضرورة تقديم الأغاني الفردية التي أصبحت بحد ذاتها تراثاً لابد من نشره عبر الأسلوب الجديد ، إلى جانب القوالب والإبداعات القديمة ،مما استدعى إفساح المجال أمام الأصوات الفردية لتقدم بعضاً من تلك الأغاني . ساعد هذا الواقع على جذب شرائح من الجيل الشاب لمتابعة حفلات الفرقة الجديدة ، ولكنه أفقدها السوية الفنية العالية ، نظراً لعدم قدرة الأصوات الجديدة على تقديم نفس السوية العالية من الأداء الرائع الذي حفظته التسجيلات المتداولة لنفس الأعمال بشكلها الأصلي. أقدم هنا أغنية حانة الأقدار للسيدة أم كلثوم بصوت الطالبة في المعهد في حينه : سوزان عطية ، مع فرقة أم كلثوم للموسيقى العربية.
رؤية ثالثة ….
بقي الغناء الجماعي العربي يتراوح بين الأسلوبين ، وبقيت فرقة الموسيقى العربية حتى بعد رحيل قائدها عبد الحليم نويرة (عام 1980) مشدودة إلى الأسلوب الرصين الذي تميزت به ، كما تابعت فرقة أم كلثوم أسلوبها الأكثر حيوية والأقل استقراراً ، نظراً لاعتمادها الدائم على الطلاب…مستفيدة من خبرات القائد المتميز الأستاذ سامي نصير ، الذي استطاع ضمن هذه المعطيات ، أن يحقق انسجاماً متكاملاً وحيوية واضحة للفرقة، دون أن يتحول الناتج إلى عرض مسرحي… إلى أن ظهرت رؤية ثالثة في الأفق .. إنها رؤية الأستاذ سليم سحاب .
درس سليم سحاب الموسيقى العربية في لبنان ، وظهر أنه سيكرس حياته من أجلها ، ولكنه رأى أن يدرس أيضاً الموسيقى الكلاسيكية الغربية ،فسافر إلى موسكو من أجل تحقيق هذا الغرض .بعد عودته أسس فرقة بيروت للموسيقى العربية ،وكانت في البداية لا تزيد عن كونها واحدة من الفرق الجماعية التي انتشرت في لبنان وسورية وأغلب أقطار العالم العربي. ولكن سرعان ما ظهر أن هناك رؤية جديدة تتحضر.. فقد قدمت الفرقة عدداً من الحفلات الناجحة التي بشرت بأسلوب جديد ..إلا أن ملامحه بقيت مشوشة لأن إمكانات الأداء لم تستطع أن توضحه تماماً.
أصبحت الظروف مهيئة عندما دعي الأستاذ سليم سحاب في بداية التسعينات ، لتأسيس الفرقة القومية للموسيقا العربية والمرتبطة بدار الأوبرا المصرية ،بتشجيع من الدكتورة رتيبة الحفني أيضاً.
استطاعت الفرقة أن تسجل من خلال حفلاتها تطوراً ملحوظاً ومستمراً في أدائها ، ما ساعد على تحليل الرؤية الجديدة في محورين أساسيين :
أ- محاولة تعويض النقص الذي سببه تبسيط اللحن الأساس ، عند نقله من أسلوب الغناء الفردي إلى الأسلوب الجماعي، والاستفادة مما فعله الأساتذة عبد الحليم نويرة وحسين جنيد و حمادة النادي وسامي نصير في هذا الاتجاه ، مع دفع حلولهم المقيدة إلى حدودها القصوى.
ب- إضافة مسحة من التجديد على الأسلوبين السائدين ، بحيث تتم الاستفادة من أساليب الموسيقى الغربية في ذلك بصورة أوضح ، وخاصة فيما يخص المقاطع التي تؤديها الفرقة الموسيقية ، على أن لا يؤثر ذلك على جمال اللحن الأصلي.
تجسد هذان المحوران من خلال العناصر التالية:
1- اختيار أعمال من التراث الغنائي العربي أو من الأعمال المعاصرة ، أبدعها ملحنون من كافة أقطار العالم العربي ( وهذا أصلاً أساس تشكيل الفرقة وسبب تسميتها الفرقة القومية للموسيقا العربية)، تتميز بحيوية الجملة اللحنية وقابليتها لإضفاء عناصر تعبيرية في أدائها .
2- اعتماد التوزيع الموسيقي في المقاطع المؤداة من قبل الفرقة الموسيقية ( المقدمة ، اللوازم الموسيقية).
3- التركيز على تموج الجملة اللحنية ، بعد أن تم تخفيف الزخرفة اللحنية الواردة في الأصل لضرورة الأداء الجماعي ، والسعي لإظهار ذلك التموج بأسلوب تعبيري واضح.
4- إبراز التصادم بين صوت الشباب وصوت الفتيات بحيث أصبحا يتمايزان على عكس الأسلوب القديم الذي كان يعتمد التكامل.
5- التعاون مع أصوات فردية متميزة عندما يلزم ذلك.
6- زيادة جرعة الحيوية في الأداء، والانتباه إلى أن ما يقدم ليس إلاّ عرضاً على المسرح ، وبقدر ما يندمج قائد الفرقة في قيادته ، و يتحول إلى نجم ، يوفر للمشاهد حاجته الدائمة إلى الإعجاب بفرد أكثر من جماعة ، بقدر ما يعوض هذا الافتقادَ إلى الصوت القادر الجاذب للإعجاب ، ما يساعد على اقتراب الناتج الجماعي من الصورة الأصلية للغناء الفردي ، ويجسد أهمية دور القيادة في استمرار ارتباط الجمهور بالفرقة ، التي تحولت إلى وعاء تدخل إليه الأصوات الشابة ، وتخرج بعد أن تجتذبها سوق الغناء ، مع الحفاظ على نجومية قائد الفرقة ، التي تكفل لها الاستدامة. أقدم هنا تسجيلاً لأغنية يا حبيب الروح من ألحان الأستاذ رياض السنباطي و أداء الفرقة القومية للموسيقى العربية بقيادة الأستاذ سليم سحاب مع إيمان عبد الغني. يمكن بسهولة ملاحظة التحول الذي طرأ على النموذج الذي أرسى دعائمه الأستاذ نويرة.
كلمة أخيرة
ومع هذا كله ، لابد من الإشارة إلى أن فرق الغناء الجماعي ، كرست ظاهرة جديدة ، تمثلت ، في أن التراث الغنائي العربي لم يعد يقدم في أغلب الأحيان إلا ضمن الإطار الجماعي ، الذي سعينا لتوضيح مراحل تطوره ، ولولا جهود الأستاذ صباح فخري ، في تقديم التراث بشكله الأصلي ، مع تطويره ليصبح أكثر معاصرة ، و معه من ساروا على نهجه ونشروا مدرسته ، وكذلك جهود صبري المدلل ، في سورية ، ولطفي بوشناق في تونس ، فإنه أصبح من النادر أن نستمع إلى مطرب فردي يقدم الموشحات والأدوار والقصائد ضمن الأسلوب التقليدي ، مع أنه من حق الجمهور أن يستمع إلى تراثه بالأسلوبين معاً :الأسلوب الجماعي الموصوف آنفاً ، والأسلوب الأصيل ،المعتمد على الفردية والارتجال والقدرة الصوتية ، و التلوينات ، والزخارف ، وتعدد الرؤى في أداء الألحان ، تلك العناصر التي غابت بمجملها في الغناء الجماعي، ليحل مكانها عناصر جديدة ، لن تستطيع مهما تطورت ، أن تبعد عن أذهاننا ، روعة الأصوات الساحرة التي أغنت الغناء العربي لفترة طويلة ، والتي ساهم اعتماد الغناء الجماعي أسلوباً وحيداً لنشر التراث الغنائي ، إضافة إلى أسباب أخرى ، في عدم رفد الغناء العربي الأصيل بالجديد والمؤهل منها.
إننا اليوم في أمس الحاجة لتوفير سياسة واضحة ، ولإجراءات تنفيذية تدعم تقديم التراث بالأصوات الفردية ، بشكل مماثل للسياسة و للإجراءات التي اتبعت في دعم مسيرة الغناء الجماعي ، بما يكفل لتراثنا الاستدامة ، في صورته الأصلية.