قلما أثير جدلٌ حول الملحن الذي وضع لحن أغنية مثلما أثير حول ملحن قصيدة ” ليت للبرّاق عيناً ” التي غنتها أسمهان لصالح شركة بيضافون ، وطبعت عام 1938 في بيروت فشاعت واشتهرت. لحسم هذا الجدل كان لابد من العودة إلى البداية..
القصيدة
تروي القصيدة واقعاً معاشاً ، عاشته شاعرة عربية جاهلية ، من قبيلة ربيعة ، هي ليلى بنت لكيز بن مرّة بن أسد ، التي عاشت في القرن الخامس الميلادي (توفيت حوالي عام 483 م) ، ولقبت بالعفيفة ، بسبب حادثة أسرها التي وثقتها في قصيدة ليت للبراق عيناً ، والبرّاق ابن عمها الذي أحبته ، وتزوجته بعد أن أنقذها من الأسر.
كانت ليلى من جميلات العرب ، ولما شاع ذكرها في الأمصار ، أرادها أحد أمراء الساسانيين ، فكمن لها ، وأسرها ، و لما حاول الزواج منها أبت ، واستصرخت بقصيدتها ابن عمها البرّاق لينقذها ، وهاجمت في تلك القصيدة إياداً وبني أنمار ، الذين كانوا قد وافقوا على سبْيِها ، لعداوتهم للبرّاق ، فسمعها راعٍ عربي ، وأوصل الخبر للبرّاق ، فجمع رجاله وأغار على موقع الأمير الساساني واستعادها ثم تزوجها.
تقول القصيدة: الأبيات المغنّاة باللون الأزرق
لَيتَ للِبَرّاقِ عَيناً فَتَرى ما أُقاسي مِن بَلاءٍ وَعَنا
يا كُلَيباً يا عُقَيلاً وَيلَكُم يا جُنَيداً ساعِدوني بِالبُكا
عُذِّبَت أُختُكُمُ يا وَيلَكُم بِعذابِ النُكرِ صُبحاً وَمَسا
غلَّلوني، قيَّدوني، ضربوا ملمس العفة مني ( جسمي الناحل ) بالعصا
أصبحت ليلى تُغلُّ كفُّها مثل تغليل الملوك العظما
وتقيدُ وتكبلُ جهرة وتطالبُ بقبيحات الخنا
يَكذِبُ الأَعجَمُ ما يَقرُبُني وَمَعي بَعضُ حِساساتِ الحَيا
قَيِّدوني غَلِّلوني وَاِفعَلوا كُلَّ ما شِئتُم جَميعاً مِن بَلا
فَأَنا كارِهَةٌ بُغيَتُكُم وَمَريرُ المَوتِ عِندي قَد حَلا ( ويقيني الموتُ شيئٌ يرتجى )
أَتَدُلّونَ عَلَينا فارِساً يا بَني أَنمارَ يا أَهلَ الخَنا
يا إِيادُ خَسِرَت صَفقَتُكُم وَرَمى المَنظَرَ من بَرد العَمى
يا بَني الأَعماصِ إِمّا تَقطَعوا لِبَني عَدنانَ أَسبابَ الرَجا
فَاِصطِباراً وَعَزاءً حَسَناً كُلُّ نَصرٍ بَعدَ ضُرٍّ يُرتَجى
قُل لِعَدنانٍ فُديتُم شَمِّروا لِبَني الأَعجامِ تَشميرَ الوَحى
وَاِعقِدوا الراياتِ في أَقطارِها وَاشهَروا البيضَ وَسيروا في الضُحى
يا بَني تَغلِبَ سيروا وَاِنصُروا وَذَروا الغَفلَةَ عَنكُم وَالكَرى
وَاِحذَروا العارَ عَلى أَعقابِكُم وَعَلَيكُم ما بقيتُم في الوَرى
فيلم ليلى بنت الصحراء
انتقت بهيجة حافظ ، وهي ممثلة ومخرجة ومؤلفة موسيقية وكاتبة مصرية هذه الحادثة ، لتنتج فيلماً حولها ، وتقوم بدور البطولة فيه . وضعت السيناريو والحوار للفيلم ، بالتعاون مع محمود الأحمدي الذي كتب القصة ، و قام بدور البطولة أمامها كل من حسين رياض وزكي رستم وعباس فارس. وضَعت الموسيقى التصويرية للفيلم ، وصمَّمت الملابس ، وأكملت إخراج الفيلم ، بعد أن اختلفت مع المخرج ماريو فولبي على طريقة الإخراج.
تضمن الفيلم قصيدة ” ليت للبرّاق عيناً ” وغنتها فيه حياة محمد ، وهي مطربة مصرية عاثرة الحظ ، كنت كتبت عنها ، بلحنٍ لمحمد القصبجي ، ولم يدَّعِ أحدٌ حينها بأن اللحن ليس للقصبجي..
عُرض الفيلم لأول مرة في 28 يناير / كانون الثاني 1937 ، ولاقى نجاحاً كبيراً ، كما عرض في مهرجان برلين الدولي ، ثم رشح للعرض في مهرجان البندقية السينمائي بعد عام ، ولكن العرض لم يتم ، بسبب قرار مفاجئ ، صدر عن الحكومة المصرية ، بمصادرة الفيلم ومنع عرضه في الداخل والخارج ، مجاملة لحكومة شاه إيران ، التي احتجت بحسبان أن الفيلم يسيئ لملك الفرس التاريخي كسرى ، فيما كانت مباحثات تدور ، حول زواج الأميرة فوزية ، شقيقة الملك فاروق ملك مصر ، من شاه إيران رضا بهلوي .
تم زواج الأميرة فوزية عام 1939 ، ودام حتى عام 1945 ، حيث تم الطلاق ، ما سمح بإعادة عرض الفيلم حينها تحت اسم : ليلى البدوية ، وبعرض أسطوانة أسمهان في مصر ، بعد وفاتها!
أسمهان والقصيدة
في عام 1938 ، وكان الفيلم قد مُنع عرضه ، بما يتضمنه من أغانٍ ، ومنها قصيدة ” ليت للبرّاق عيناً ” ، قدم القصبجي هذا اللحن لأسمهان لتغنيه ، وطبعت الأسطوانة في بيروت ، لصالح شركة بيضافون. لم يسمح بدخول الأسطوانة إلى مصر ، كما يقول محمد التابعي في كتابه عن أسمهان ، إذ يقول بأن أسمهان طلبت منه وكان سيسافر إلى بيروت ، إحضار نسخة عن الأسطوانة ، وأشار أن السبب دعوى مقامة على الأسطوانة تمنع دخولها ، كانت أقامتها بهيجة حافظ ، ولم يحدد مضمون القضية ، وهنا إحتمالان : إما أنها أقامت الدعوى بحسبان أن اللحن لها ، وهذا لاشك كان أثار ضجة كبيرة لم نسمع عنها ، أو لأنها تملك حقوقها ، باعتبارها منتجة الفيلم ، وهذا الاحتمال هو مرجح على الاحتمال الأول . طبعاً هناك احتمالان آخران ، بأن يكون السبب القضية التي رفعتها حياة محمد على أسمهان ، بحسبان أن الأغنية لها ، أو أن المنع كان للسبب ذاته الذي من أجله منع الفيلم ، أي مجاملة لحكومة الشاه ، وهذا ما أرجحه بالنتيجة ..
ابراهيم حمودة
ابراهيم حمودة غنى القصيدة أيضاً بلحنها الأساسي ، ونلاحظ لدى الاستماع إلى تلسجيل المرفق أن أداءه التطريبي يغلف القصيدة بكاملها ، و لا يختلف حتى عندما يؤدي : غلَّلوني ، أي عندما تروي لأخوتها ما حصل معها ، أو: غلِّلوني ، أي عندما تتحدى آسريها ، فيما كان الاختلاف في التعبير واضحاً عند أسمهان!.
ادعاءات تلحين القصيدة : بهيجة حافظ
أتى أول الاعتراضات على ملحن القصيدة على لسان بهيجة حافظ ، في مقابلة مع الإذاعة المصرية ، ثم مع التلفزيون المصري ، في برنامج أمام المرآة ، مع المذيعة جيلان حمزة. يمكن متابعة الفيديو الذي أنشره ، والذي يتضمن رواية بهيجة حافظ للموضوع ، حيث تقول بأنها هي التي اختارت أبيات القصيدة التي كانت ستغنى في الفيلم ، من 35 شطرة هي كامل القصيدة ( العدد الصحيح 34 كما أن عدد الشطرات في الشعر الجاهلي وما تلاه مزدوجٌ عادة!) ، كما تقول بأنها شاركت القصبجي في وضع اللحن ، وتصف كيف كان يمسك بالعود ، ويضع اللحن ، وكيف كانت تعطيه ملاحظات عن كيفية تلحين بعض كلمات الأغنية ، للتعبير عنها ، بحسبانها ممثلة .. المهم أنها تشرح أسلوب القصبجي في تلحين القصيدة ، وطريقة مشاركتها له في وضع اللحن ، ما يناقض ادعاء أحمد عبد القادر ، الذي سنعرض له الآن ، بأن اللحن له!
ادعاءات تلحين القصيدة : أحمد عبد القادر
أحمد عبد القادر مطرب وملحن مصري ، كنت كتبت عنه أيضاً ، ولد عام 1916 وتوفي عام 1984 . اشتهر بأغانٍ لحنها له رياض السنباطي ، وبأغنية رمضانية شهيرة هي ” وحوي يا وحوي “. في فترة موازية لادعاء بهيجة حافظ ، قال أحمد عبد القادر في مقابلة إذاعية نشرها الأستاذ ابراهيم حنفي ، بأن اللحن له ، كما تغنى بمدخل القصيدة ، وفق اللحن الذي غنته أسمهان ، وبعد ذلك أورد معد البرنامج تسجيلاً لمدخل القصيدة ، بصوت أسمهان ، ثم بصوت أحمد عبد القادر.
بالتيجة أصبح لدينا تسجيلان لفنانَين ، كلٌ منهما يدعي بأن اللحن له ، ما يضعف بالنتيجة رواية الإثنين!
روايات حول الموضوع تؤكد عائدية اللحن للقصبجي ، أتت بعد وفاة كل من بهيجة حافظ و أحمد عبد القادر
في أحد أعداد مجلة فن ، التي كانت تصدر بين عامي 1988 و 1998 ، كتب كمال النجمي ، وهو صحفي وناقد موسيقي مصري مشهور ، مقالاً حول هذه القصيدة ، أي بعد وفاة القصبجي ، أورد فيه أن اللحن للقصبجي ، و لم يذكر ادعاءات بهيجة حافظ ( توفيت عام 1983 ) و أحمد عبد القادر ( توفي عام 1984 ) ، ما يدل على أن لم يقم لها اعتباراً ..
وإلى ذلك أيضاً ذهب المؤرخ الموسيقي المعروف محمود كامل ، إذ قال في كتابه عن صديقه محمد القصبجي ، بأن زكريا أحمد كان لحن القصيدة ، ثم اختلف مع منتجة الفيلم ، فأُسند التلحين للقصبجي ، وغنته حياة محمد ، ثم أسمهان.
وإلى ذلك ذهب أيضاً حسن إمام عمر ، وهو مؤرخ سينمائي عاصر جيل القصبجي ، في مقال له نشر في مجلة الفيديو العربي عام 1986 ، و في معرض حديثه عن الأغنية ، إذ كتب بأن الأغنية للقصبجي ، وأن اللحن كان مخصصاً لليلى مراد ، وعندما اعتذرت بسبب ضعف دورها في الفيلم ، أتى القصبجي بحياة محمد لتغني اللحن .
وطبعاً وبالمناسبة : القصبجي لحن لحياة محمد عدداً من الأغاني ومنها : قصيدة صداحة تتغنى في الروض ما أحلاها ، ومونولوجات رومنسة منها : أحب فيك الأمان وياللي غيابك طال .. وغيرها.
حسم الموضوع : اللحن حسب الوثائق لمحمد القصبجي
طبعاً أصبحنا أمام ادعاءين: فأحمد عبد القادر يدعي علناً بأن اللحن له ، وكذلك بهيجة حافظ ، التي تروي كيف كان القصبجي يلحن القصيدة ، وهي تشاركه في ذلك .. ولاشك في أن الإدعاءين أحدهما يضعف الآخر .. كما أننا أمام كتابات لمؤرخين معروفين ، أرجعوا اللحن للقصبجي ، دون التوقف عند تلك الادعاءات .. طبعاً أنا لا أكذِّب أحداً ولكنني أبحث عن حسم الموضوع .. إن أمكن وعن طريق تقاطع المعلومات الواردة في الوثائق .. بالعودة إلى الوثائق:
عندما نشرت شركة بيضافون أسطوانة ليت للبراق بصوت أسمهان ، لم تورد ما يدل على ملحنها، كما رأينا في الصورة أعلاه ، وفق ما كان يتم أحياناً ، ولكن عندما أعيد طبع الأسطوانة في باريس ، في عام 1992 ، كان لابد من توثيق معلوماتها ، حسبما تقتضيه قواعد النشر الفرنسية ، و وفق أرشيف جمعية المؤلفين والملحنين في باريس : SACEM/SDRM ، كما هو مثبت في الصورة هنا ، فتم وضع اسم الملحن ، حسب قيود الجمعية ، وهو : محمد القصبجي ، أي أن لحن القصيدة مسجلٌ باسمه ، كما تم توثيق أن التسجيل الأصلي كان لصالح بيضافون ، لحفظ حقوق المنتج ، و تم كذلك تثبيت أن هذه المعلومات من أرشيف الجمعية.
و للتأكد تم العودة إلى قواعد البيانات الدولية للأسطوانات ، وتبين أن اللحن مسجل أيضاً باسم محمد القصبجي.
لحن آخر للقصيدة
فيما بعد ، لحن الملحن أحمد صدقي القصيدة ، لصالح الإذاعة ، وغنتها زينب يونس ، باختيارات مختلفة من الأبيات . أنشر هنا التسجيل للمقارنة ، وكذلك لأن تقديم اللحن الجديد من الإذاعة المصرية ، يورد أن لحن القصيدة الأصلي لمحمد القصبجي!
التحليل الموسيقي
جاء لحن القصيدة على مقام الراست الأصيل ، بما يتلاءم مع قصيدة من الشعر الجاهلي ، ومع المعاني التي تفيض فيها بالقوة و رفض الاستسلام ، مبتدئاً بآهات تعبيرية فيها حسرة على الحال التي وصلت إليها الشاعرة في الأسر ، مغلفاً مساحة الأبيات بتعبيرية اعتدنا عليها في ألحان القصبجي ، الذي يستند طبعاً إلى أداء معجز اعتدنا عليه مع أسمهان . يبرز هذا في مقطعين في هذه القصيدة : المقطع الأول الذي تشتكي فيه أسمهان واصفة حالها لأهلها ، حيث يعبر اللحن في تصاعده ثم في تخافضه عن هذه الشكوى، وهي تصف هول ما جرى معها ، فتقول “غلَّلوني.. قيَّدوني” في تصاعد للحن، وفي امتداد للتعبير عن طول المدة التي قضتها وهي في الأسر ، بينما نجدها بعد قليل ، و في مقطع “غلِّلوني.. قيِّدوني” ، تخاطب آسريها، بلحن سريع يعبر أمامهم عن عدم اهتمامها بطول المدة، فيما تأتي لازمة موسيقية لاحقة تعبر عن استهزائها بهم ، أما عندما تصل إلى مقطع “وافعلوا كل ما شئتم” في تصاعدٍ للحن يصل إلى الذروة، فإنها تُعبّر عن روح التحدي الذي تسيطر أمام ما قد يفعلوه بها وهي في الأسر.