في عام 1933 قدم محمد عبد الوهاب فيلمه السينمائي الأول الوردة البيضاء ، من إنتاجه وبطولته وإخراج محمد كريم . شاركته البطولة في الفيلم سميرة خلوصي ، في أول ظهور لها ، ودولت أبيض و سليمان نجيب. حقق هذا الفيلم لعبد الوهاب جماهيرية عريضة ، إذ أنه تم توزيعه ومشاهدته في جميع أرجاء العالم العربي ، كما أنه حول عبد الوهاب من المطرب الأول إلى فتى الشاشة الأول ، فيما اعتبره عبد الوهاب بداية لمرحلة جديدة في مسيرته الفنية.
صُوِّر الجزء الأكبر من الفيلم ، وسجلت أغانيه ، في باريس ، وعُرض أولاً في سينما رويال بالقاهرة ، محققاً إيرادات قدرت بحوالي مائة ألف جنيه ، وتقاضى محمد كريم خمسمائة جنيه عن الإخراج.
أسس الفيلم ، على مستويات عديدة ، للفيلم السينمائي الغنائي العربي وشكله ، الذي سيستمر طويلاً.
القصة:
يروي الفيلم قصة جلال ( عبد الوهاب ) كاتب الحسابات ذي الصوت الجميل ، الذي يلتحق بالعمل في دائرة إسماعيل بك. تتوطد علاقته برجاء ابنة إسماعيل، الذي يطرده من العمل عندما يكتشف العلاقة التي نشأت بينهما. يحترف جلال الغناء ويحقق النجاح ، بينما تتعجل دولت زوجة والد رجاء ، زواجها من شقيقها شفيق. ترفض رجاء فهي ما تزال على حبها لجلال ، في حين يطلب إسماعيل من جلال الابتعاد عن ابنته ، مذكراً إياه بفضله عليه ، فيعده بذلك. يتمكن شفيق من بث الفرقة بين الحبيبين، فتوافق رجاء على الزواج منه. يعلم جلال بحقيقة حب رجاء له ، ولكنه يبتعد وفاء لوعده.
ملامح الأغنية السينمائية
تسبب فشل فيلم أنشودة الفؤاد من بطولة نادرة ، الذي عُرض عام 1932 ، كأول فيلم غنائي عربي ، نظراً لتقديم الغناء فيه بالأساليب التقليدية ، و لطول أغانيه ، في انتباه عبد الوهاب ، إلى ضرورة التأسيس لملامح جديدة للغناء العربي ، تتلاءم مع تقديمه في السينما . أوضح فيلم الوردة البيضاء رؤية عبد الوهاب لتلك الملامح الجديدة ، إذ أتت الأغاني في سياق الفيلم ، معبرة عن تطور مضامينه ، كما اختُصرت المقدمة الموسيقية ، وأصبح اللحن يركز على التعبير عن المعاني الواردة في النص ، كما حفل الأداء الغنائي بالتعبير الدرامي. جسد مونولوج ” ضحيت غرامي ” ، على سبيل المثال ، هذه الملامح الجديدة ، وسرعان ما تبناها الجميع . نلحظ في أداء الأستاذ عبد الوهاب لمونولوج ضحيت غرامي في بداياته ملامح من الأداء الأوبرالي.
خلا الفيلم من الحواريات ، لأن سميرة خلوصي لم تكن مغنية ، ولكن عبد الوهاب قدم فيه أغنيات عديدة ، أسهمت ، كما أسلفنا ، في إيضاح ملامح الأغنية السينمائية التي أرادها. نظم أحمد رامي كلمات الأغاني : ” يا وردة الحب الصافي “، و ” ناداني قلبي ، ” و ” يا لوعتي يا شقاي ” ، و ” يا للي شجاك الأنين ” ، و ” ضحيت غرامي “، إضافة إلى موال” سبع سواقي “، كما قدم عبد الوهاب أغنية ” النيل نجاشي ” من نظم أحمد شوقي.
أضاف عبد الوهاب لاحقاً إلى الفيلم قصيدة ” جفنه علم الغزل ” للأخطل الصغير ( بشارة الخوري ) ، ولم يكن لها أي علاقة بسيناريو الفيلم!
جاءت هذه القصيدة ، لأول مرة في الغناء العربي ، وفي السينما الغنائية ، على إيقاع الرومبا الراقص ، ومقام العجم ، ومع ذلك سرعان ما ينتقل اللحن إلى مقام البيات الشرقي التطريبي ، عند مقطع “يا حبيبي ” ، فنُحسُّ فوراً أننا انتقلنا ، من عالمٍ راقص ، إلى عالمٍ شرقي تطريبي!
تجدر الإشارة ، إلى أن عبد الوهاب مزج في الفيلم بين الخيال والحقيقة ، عندما قال في أحد مشاهد الفيلم ، مقدماً مونولوج ” النيل نجاشي ” : ” إنه آخر ما نظمه شوقي بيه قبل وفاته “!
الاقتباس
شهد الفيلم أيضاً استمراراً لأسلوب الاقتباس عند عبد الوهاب . جاء ذلك في لحن ” النيل نجاشي ” من نظم أحمد شوقي ، عندما اقتبس عبد الوهاب من نشيد شهير ، هو نشيد ” بحارة الفولغا “. أظهر عبد الوهاب ، في هذه الاقتباس ، قدرة مبهرة في السبك ، إذ بدا اللحن المقتبس وكأنه من نسيج اللحن الأصلي.
سأورد في نهاية هذه النشرة رابطين ، إلى قسمي الحلقة الخامسة من برنامج عبد الوهاب مرآة عصره ، حيث تتابعون تحليلاً تلفزيونياً كاملاً لفيلم الوردة البيضاء. ترد المقارنة بين لحن النيل نجاشي ولحن نشيد بحارة الفولغا ، في القسم الثاني من الحلقة الخامسة.
الموسيقى التصويرية وشارة الفيلم
لم تكن السينما العربية الوليدة ، قد عرفت ما يسمى الموسيقى التصويرية المؤلفة خصيصاً للفيلم ، قبل فيلم الوردة البيضاء . من أجل توفير ذلك ، كتب عبد الوهاب مقطوعة موسيقية أسماها ” فانتازي نهاوند ” ، بعيداً عن قوالب التأليف الموسيقي العربي ، المستندة إلى أصول تركية . وظّف المخرج محمد كريم هذه المقطوعة الموسيقية ، لمرافقة شارة الفيلم ، و لتقوم بدور الموسيقى التصويرية في سياق الفيلم ، كما وظفها لتكون جسراً صوتياً بين المشاهد ، في أسلوب لم نعرفه في الأفلام .. إلا لاحقاً!
وإليكم شارة الفيلم التي رافقتها معزوفة فانتازي نهاوند. بالمناسبة .. كانت تسميات المعزوفات الشائعة كما يلي : سماعي نهاوند ، بشرف نهاوند ، لونغة نهاوند .. فأتى عبد الوهاب و أطلق على معزوفته : فانتازي نهاوند!
تنفيذ الأغاني
كانت الأغاني تنفذ مباشرة بشكل حي أثناء التصوير ، وتسجل. وكانت الفرقة الموسيقية تؤدي الموسيقى خلف الديكور ، فيما يؤدي المغني الأغنية مباشرة ، إلا في مونولوج ” النيل نجاشي ” ، حيث تم الأداء من عبد الوهاب والفرقة الموسيقية مباشرة أمام الكاميرا . وعلى كل الأحوال فقد كان هذا مرهقاً ، إذ كان على عبد الوهاب أن يمثل ويغني في ذات الوقت!
تنفيذ أغنية جفنه علم الغزل
عندما أصر عبد الوهاب على إدراج قصيدة ” جفنه علم الغزل ” ، التي كان سجلها صوتاً في برلين ، لتنشر على أسطوانات ، وكان الفيلم قد دخل مرحلة المونتاج ، اعتُمد ترتيب خاص ، ولعله كان ينفذ لأول مرة . كان ذلك من خلال استخدام آلة الموفيولا التي تستخدم عادة لتحرير الفيلم ( Editing ) ، وهي آلة مزودة بشريطين ، أحدهما للصوت والثاني للصورة ، حيث تسمح الآلة بضبط التزامن بينهما . تم تسجيل الصوت من الأسطوانة ، وتشغيله من خلالها ، لتصور مشاهد الأغنية ، بحيث يفتح عبد الوهاب فمه وكأنه يغني ، وتم تصويره. نُفِّذ التصوير في حديقة استوديوالتسجيل في باريس ، و تدبر المخرج محمد كريم أن تؤخذ أغلب اللقطات بعيدة. عندما انتهى التصوير ، تم تركيب شريط الصورة على الموفيولا ، وضبط التزامن بين شريطي الصوت والصورة في أفضل شكل ممكن ، وهكذا شهد فيلم الوردة البيضاء ، ولادة أول قصيدة سينمائية راقصة ، تم تنفيذها بتقنية البلاي باك.
رياض السنباطي وجميل عويس
شهد الفيلم ظهوراً تمثيلياً عابراً لرياض السنباطي ، في مشهد قصير ، يعترض فيه على تأخر المغني عن التدريب ، كما ظهر عازفاً على العود ، في مونولوج ” النيل نجاشي ” ، من نظم أحد شوقي ، إلى جانب عبد الوهاب ، رغم أن عبد الوهاب كان يغني مع العود . وأعتقد أن وجود السنباطي عازفاً في الفيلم ، كان بسبب أسلوب تنفيذ الأغاني الذي وصفته أعلاه ، والذي يتطلب وجود عازف للعود ضمن الفرقة الموسيقية ، أثناء تأدية الأغنية المباشر من قبل عبد الوهاب.
أشيرُ في هذا السياق ، إلى أن الفنان السوري الأصل جميل عويس ، قائد فرقة عبد الوهاب ، وعازف الكمان ، هو الذي قام بتوزيع أغاني الفيلم ، من حيث توزيع الأدوار على الآلات الموسيقية .
الدعاية
من الجدير بالذكر أن عبد الوهاب ، الذي أنتج الفيلم ، كان يجلس في شباك التذاكر للتسويق للفيلم.. ولجذب الناس.. ولاحقاً ابتدع أساليب أكثر جذباً ، لها حديث آخر..
أسئلة مفتوحة
من المفيد مراجعة المقال التالي الذي يوضح كيف تم تحديث هذه الدراسة عن فيلم الوردة البيضاء في محور الموسيقى التصويرية و بالتالي توليد الأسئلة التالية:
1- هل كانت هذه هي المرة الأولى في توظيف الموسيقى كجسر صوتي بين مشاهد سينمائية متعددة؟
2- هل تطور هذا الأسلوب السينمائي لاحقاً لتولد تقنية الفيديو كليب؟
3- حملت قصيدة جفنه علم الغزل أول تجربة لما يسمى ال بلي باك في السينما العربية ، فهل كانت أيضاً أول تجربة في السينما على الإطلاق؟
أسئلة لا تزال بحاجة بحث للتوصل إلى إجابات!
للمزيد حول فيلم الوردة البيضاء
برنامج عبد الوهاب مرآة عصره – الحلقة الخامسة – 1