في الثلاثين من نيسان 1952 ، سجلت السيدة فيروز لصالح إذاعة دمشق ، وكانت صبية عمرها 16 سنة ، من ألحان الأخوين رحباني ، قصيدة ” عنفوان ” لشاعر سورية الكبير عمر أبي ريشة . كان الشاعر قد كتب هذه القصيدة عام 1937 ، ونشرت لاحقاً في كتاب صدر في دمشق بعنوان ” مختارات من شعر أبي ريشة”.
أعادت السيدة فيروز تقديم القصيدة في دمشق عام 1954 ، مع قصيدة ” ذكرى بردى ” من شعر بشارة الخوري ” الأخطل الصغير ” . جاء ذلك في حفلة أقيمت في نادي الضباط بمناسبة عيد الجلاء ، و شهدت أول ظهور لفيروز أمام جمهور بمفردها في حياتها ، فيما كانت قد ظهرت قبل ذلك في حفلة في دمشق عام 1952 ، ولكنها لم تكن لوحدها ، بل كانت مع رفيقتها في البدايات : حنان . من هنا قد نفهم بعض أسباب ذلك الارتباط الدائم بين فيروز والشام.. وطبعاً هناك أسباب أخرى قد أعرض لها لاحقاً..
في تلك الحفلة ، كما في التسجيل ، رافقت فيروز في تقديم الأغنية فرقة موسيقية كبيرة ذات طابع سمفوني ، كما شارك في الحفلة مجموعة من طالبات ” دوحة الأدب ” بدمشق ، التي تخصّصت في تبنّي الموشحات ، و أداء رقص السماح ، منذ أن أرسى الشيخ عمر البطش فيها هذا التقليد عام 1947 ، نتيجةً لانتقاله من حلب إلى دمشق ، بمساعٍ من الزعيم الوطني فخري البارودي ، للتدريس في المعهد الموسيقي بدمشق ، ليتابع طلابه : عدنان منيني وبهجت حسان ، تدريب الطالبات لمدة طويلة ، بعد عودة الشيخ عمر إلى حلب ووفاته عام 1950.
بالنتيجة ، تكتسب هذه القصيدة أهميتها من ثلاثة عناصر : أولاً : أنها القصيدة الوحيدة التي غنتها فيروز من شعر عمر أبي ريشة ، و ثانياً : أنها الأغنية التي واجهت بها فيروز الجمهور لأول مرة في حياتها ، وثالثاً : أنها العمل الغنائي الأول للأخوين رحباني ، الذي قُدِّم في صورة موسيقية ذات طابع ” سمفوني “.
في النص ..
لنتعرف أولاً على كلمات القصيدة ، كما غنتها فيروز ، و على تسلسل القوافي والروي فيها ، إذ اتبع الشاعر فيها تسلسلاً تبينه الألوان ، بالنسبة لختامات الأبيات ، مع ملاحظة تسلس مختلف ، في كل مشهد للشطرات الأخرى ، كما اعتمد الرويَّ الممتد ( الألف واللام ) ليغلف القصيدة كتعبير عن أن العنفوان لا ينتهي ، حتى إن واجه النسر حتفه .. كما نلاحظ تركيز الشاعر على نداء الزمان
لم ترتشف دمعي شفاه الهوان ولم يناد المجد : هذا جبان
فاعصف فإني صخرة يا زمان
طلعت في دنياك عفَّ الرداء وملء جنبيَّ أنتفاض الإباء
أمشي ويمشي في ركابي الرجاء والدرب بالريحان يزهو افتتان
وأنت تهمي بالرضا يا زمان
أنا الذي فضَّ غيوب الوجود وصبَّها لحناً بأذن الخلود
فلم يلح لي منك غير الجحود كأنما لم تصغ لي كل آن
وفيك مني نشوة يا زمان
افتح كوى البغي وخلِّ الرياح مجنونة تزرع صدري جراح
النسر لا يرجف منه الجناح خوفاً ولا يخذله العنفوان
إذا دعاه حتفه يا زمان
جاءت القصيدة في أربعة مشاهد ، لخصت حياة الشاعر ( الذي شبه نفسه بالنسر ، الذي يرمز أيضاً لوطن الشاعر : سورية التي كانت تعيش فترة الانتداب الفرنسي ) ما يذكرني بقصيدة عمر أبي ريشة الشهيرة : النسر ، التي تتقاطع في كثير من مضامينها مع مضامين هذه القصيدة .
نلحظ في النص كثافةً في العناصر الدرامية ، في نص قصير نسبياً ، وذلك من خلال التضاد بين مفرداته : الجبان والهوان في مقابل العنفوان ، الخلود في مقابل الجحود ، الرياح في مقابل الجراح والجناح ، لتسيطر مفردة الزمان ، ما سيجعل اللحن يعتبرها منطلق القصيدة وختامها ، فيأتي أداؤها اللحني على درجة لحنية واحدة في البداية والنهاية .. كما سنرى .
في اللحن..
جاءت المقدمة الموسيقية ، التي نفذتها فرقة موسيقية ” ذات طابع سمفوني ” ، إذ تشكلت من 50 عازفاً ، حسبما تتذكر فيروز ، وشاركت فيها النحاسيات ، على مقام النهاوند . من البداية ، وبعد افتتاحية قصيرة ، تدخل آلة الفيولونسيل ( التشيللو ) في أداء منفرد ، يعبر عن الشاعر في عنفوانه ( لطالما عبرت آلة التشيللو في رأيي عن الرجل في الموسيقى ، مقابل تعبير آلة الكمان عن المرأة ، بسبب اختلاف الطبقة الموسيقية لكل منهما ) ، لتتقاطع مع مداخلات كروماتيكية متخافضة من الفرقة الموسيقية ، تعبر عن قوى البغي المتربصة بالشاعر ، دون أن يعرف .. إذ كان يمني النفس بحياة رضية ، كما يعبر لاحقاً في المشهد الثاني من القصيدة.
تنطلق القصيدة في مشهدها الأول بأبيات مفاجئة ، فيها تحد للزمان ورفضٌ للهوان .. و يعبر اللحن في امتداداته وارتفاعاته عن رفض الهوان ورفض صفة الجبان ، وخاصة عند ارتفاع اللحن عند كلمة ” فاعصف ” ، معلناً التحدي ، ليختتم لحن هذا المشهد الأول عند كلمة يا زمان ، عند الدرجة الصوتية التي سينتهي عليها اللحن بكامله في المشهد الأخير .. فيما يشبه أقفال اللحن كما سنرى ونسمع ..
بعد انطلاق القصيدة في تحدي الزمان … يعود الشاعر ، في المشهد الثاني ، مع المحافظة على مقام النهاوند ، و فيما يسمى الفلاش باك ، ليتذكر بداياته ، ويحدد صفاته في الحياة : العفة والإباء ، والرجاء بمستقبل مشرق ، و بدربٍ يزهو بالريحان . عابق بالرضى من الزمان..
مع تحول الأجواء في المشهد التالي ، تتحول الموسيقى الممهدة إلى مقام العجم ، لتعبر عن وصف الشاعر جحود الزمان ، وهو الذي قد صبَّ موسيقى شعره في أذن الخلود ، منتشياً في عبوره لرحلة الحياة .. مع عودة هنا إلى مقام النهاوند في التعبير عن النشوة ، و للتمهيد للمشهد التالي ، حيث يتم انتقال لمقام النكريز ، وهو من فروع مقام النهوند ، يسمح بإبراز جنس النهاوند على درجة الصول ، كما تشارك النحاسيات في الأداء التمهيدي .. تدخل فيروز هنا في غناء مرسل تعبيري ، يخاطب فيه الشاعر الزمان ، فيطلب منه أن يفتح كوى الهول ( البغي في أصل القصيدة ) لتدخل الرياح المجنونة ، فتزرع صدره بالجراح ، فالنسر لا يرجف منه جناح خوفاً .. و التركيز هنا على الرياح طبيعي ، لأنها عدو النسر الأول في تحليقه في أعالي السماء .. ومع ذلك لا يخذله عنفوانه ولو كان الثمن لقاء حتفه .. يعبر اللحن هنا عن التضاد بين قوى الهول والجراح .. ونلاحظ بسهولة أهمية مداخلات الموسيقى في تعميق التفاعل من خلال تصاعدات لحنية متسارعة ، فيما يتحول المقام الموسيقي إلى مقام نوا أثر عند كلمة يا زمان ، في تحول مقامي تعبيري ، فيه لوم وعتب جليٌّ على الزمان ، وصولاً إلى التصاعد الختامي على الدرجة الصوتية ذاتها ، التي اختتم بها لحن المشهد الأول ، فيما يعبر عن إقفال اللحن عند المفردة الأساس التي دارت حولها القصيدة : الزمان.
لم يعتمد الأخوان رحباني قالب القصيدة الغنائية التقليدي لتلحين قصيدة عمر أبي ريشة ، رغم الالتزام بإبراز إيقاعية الألفاظ كما يقتضي الشعر ، بل اعتمدا الأسلوب التجديدي ، الذي يقترب من قالب المونولوج الشعري المطلق ، و يسمح بالمقاطع المرسلة ، والختامات المعلّقة ، وبالتقاطع بين الغناء والموسيقى ، إضافة إلى اعتماد إضفاء الإيقاع من خلال النسيج الداخلي للَّحن ، وفق ما هو معتمد في الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، ما قد يقودني إلى ترجيح أن يكون لحن هذه القصيدة لمنصور رحباني.
وفي سياق آخر ، فقد جاء أداء فيروز ، رغم حداثة سنها ، مقنعاً ، إذ استطاعت أن تلوِّن تعبيرها ليتوافق مع تغير المعاني ، في طيف امتد من الرضى إلى التحدي ، مع المحافظة على جو القصيدة العام ، فيما افتقدت الفرقة الموسيقية بعض الانسجام في الأداء ، و كانت الآلات الموسيقية بحاجة إلى ضبط أكثر إتقاناً ، وخاصة فيما بين الآلات الوترية والنحاسية ، علماً بأنه من الممكن تفهم هذا ، عندما نتذكر أن التسجيل يعود إلى بداية الخمسينات من القرن الماضي ، ما كان يعد ، في الواقع ، إنجازاً!
بقي أن أشير إلى أن المساحة الصوتية للَّحن امتدت على ثمانية أصوات موسيقية بالنسبة لأداء فيروز ، و عشرة أصوات بالنسبة لأداء الفرقة الموسيقية ، ربما في تأثر للأخوين بما قاله محمد فليفل ، مكتشف فيروز ، من أن مساحة صوتها تمتد على 9 أصوات موسيقية فقط ، وأنه سعى لكي تمتد لصوت موسيقي إضافي ، فيما سأثبت لاحقاً أن صوتها امتد على 13 صوتاً سليماً ، كان بالإمكان توظيفها لإكساب اللحن مزيداً من الإمكانات التعبيرية الحماسية ، وهو ما استدركه الأخوان رحباني لاحقاً!