ولد الموسيقي الكبير زكي ناصيف في عام 1916 ، ورحل في العاشر من آذار 2004 ، عن ثمانية وثمانين عاماً .. ولكن هذه السنين الطويلة ، لم تحجب روح الإبداع عنده ، إذ لحَّن للسيدة فيروز ، في عام 1994 ، ألبوماً كاملاً من الأغاني ، وكان عمره يقارب الثمانين عاماً..!
كان زكي ناصيف أحد أهم من رسموا ملامح مركز بيروت الموسيقي الناهض ، في بداية الخمسينات من القرن الماضي ، و كان الأول بين اللبنانيين الذين درسوا الموسيقى الكلاسيكية الغربية على أسس أكاديمية ، رغم منابعه الفنية المتصلة بالمدرسة الموسيقية الكلاسيكية العربية ، والأغاني الشعبية ، والترانيم الكنسية ، إذ بدأ بدراسة الموسيقى الكلاسيكية الغربية في الجامعة الأمريكية في بيروت ، منذ عام 1936 ، ولكنه خالف السائد ، فلم يبتعد عن جذوره ، وإنما وظَّف معرفته الموسيقية الغنية ، في الموسيقى الكلاسيكية ، الغربية والعربية ، في خدمة التراث الموسيقي لأرياف بلاد الشام ، فقدم ألحاناً تبدو من الفولكلور ، وهي ليست منه ، و ضمها إلى تراث المدينة ، ابتداءً من مهرجانات بعلبك ، في إطار موسيقي كلاسيكي عام ، رغم أن بداياته راحت باتجاه الأغنية الراقصة ، بتأثير من إذاعة الشرق الأدنى!
رافق الأخوين رحباني لوهلة ، فيما سمي عصبة الخمسة ، ( ناصيف مع الأخوين رحباني وتوفيق الباشا وتوفيق سكر ) ، التي شُكلت على نسق عصبة الخمسة من الموسيقيين الروس .. ثم نافسهما بشدة !
لم تكن لتلك المنافسة من نتيجة لصالحه ، إذ أنه افتقد دائماً الصوت الناشر لفنه ، فقدم بعض ألحانه بصوته ، وركز أحياناً على وديع الصافي ، عندما أتيح له ذلك ، كما ركز على سعاد هاشم ، دون التزام ثابت من أي منهما معه، بل وتعاون أيضاً مع عصام رجي.
عندما أتيحت له فرصة نادرة مع السيدة فيروز في عام 1981 ، بعد انفصالها عن الأخوين رحباني ، قدم معها رائعتهما ” يا بني أمي ” ، التي صاغها جبران خليل جبران ونشرت في كتابه حديقة النبي عام 1933. وصل ناصيف بلحنه لهذه الأبيات إلى ذرى درامية استثنائية ، من جهة ، وأبرز ، من جهة أخرى ، امتلاكه لأدواته الموسيقية المتنوعة بحرفية عالية ، مكنته من التعبير عن تشابكٍ مكثفٍ للعواطف ، ومن المرور على مختلف الأجواء الموسيقية ، في سياق مشاهد القصيدة العابرة على مشاعر الإحباط ، فالتحذير ، ثم الأمل ، دون أن نلمس أي هجنةٍ في ذلك ، وقد تجلى ذلك بصورة أوضح عند التعبير عن مشاعر الأمل بالأرض و بالفلاحين و بالزرّاعين ، في أجواء موسيقية بعيدة كل البعد عن أجواء التعبير عن الإحباط فالتحذير!.. ما يعطينا فكرة واضحة عن مستوى الأغاني التي كان من الممكن أن يخرجا علينا بها ، هو و السيدة فيروز ، لو أتيحت الفرصة لهما للتعاون ، على مدى مسيرتها الفنية الناصعة ، وفي فترة نضوجه الذهني .. ، مثَله في ذلك ، مثَل منصور رحباني ، في الفترة بعد غياب عاصي .. ولكنها دائماً مؤثرات لا علاقة لها للأسف بالفن ، تكبح جماح الإبداع ، فتودي به إلى مسارات ، ناصعة نعم .. ولكنها غير مكتملة..
في ظلام الليل أناديكم هل تسمعون
مات أهلي و عيونهم محدقة في سواد السماء
في ظلام الليل أناديكم هل تسمعون
مات أهلي و غمرت تلال بلادي الدموع و الدماء
في ظلام الليل أناديكم هل تسمعون مات أهلي
الويل لأمة كثرت فيها طوائفها و قل فيها الدين … الويل لها
والويل لأمة تلبس مما لا تنسج و تشرب مما لا تعصر … الويل لها
الويل لأمة كثرت فيها طوائفها و قل فيها الدين … الويل لها
و الويل لأمة مقسمة و كل ينادي انا أمة … الويل لها
يا بني أمي الحق الحق أقول لكم
وطني يأبى السلاسل وطني أرض السنابل
وطني الفلاحون وطني الكرّامون
وطني البناؤون و الغار و الزيتون
وطني هو الإنسان وطني لبنان
لاحقاً قدم زكي ناصيف لفيروز ألبوماً كاملاً من الأغاني التي وضع بنفسه نصوصها ، وكان عمره قد قارب الثمانين عاماً.
بالنسبة لي .. لن ” يكتمل ” احتفاؤنا بزكي ناصيف في ذكرى رحيله .. إن لم نستمع إلى صوته .. في هذه الأغنية الجميلة ، التي نادى بها عاشقةَ الورد .. ولنا أن نتصور ما ألمحتْ إليه الأغنية ، في إطار ما سلف ، من افتقاده للصوت الناشر لألحانه ، و معرفتنا لمن عشقت الورد طيلة حياتها : مَن كان الحبيب المنتظِر .. ومَن كان المحبوب المنتظَر !
وإغناءً للموضوع ، فقد رأيت أن أنشر هنا ، من مكتبتي الموسيقية ، ما كنتُ نشرته قناتي على يوتيوب ، وهو مقابلة مع الأستاذ زكي ناصيف أجراها الأستاذ عادل يازجي وعرضت على شاشة التلفزيون العربي السوري.