كتاب حياة وفن فيروز والأخوين رحباني في نسخته متعددة الوسائط: التحولات الكبرى تولِّد الإبداعات الكبرى – الباب الأول – الفصل الرابع

شعار كتاب الأغاني الثاني

مقدمة

رأينا في الفصول السابقة أن غناء بيروت لم يتغير، طيلة الفترة الممتدة، من نشوء فكرة لبنان الكبير وإعلان الدستور عام 1926، إلى إعلان الاستقلال، عام 1943، الذي كرس لبنان الكبير نهائياً، إذ كانت بيروت لا تزال جزءاً من شبكة المدن العربية المشرقية، مع تأثير لحلب ودمشق أكثر وضوحاً عليها، في البداية، وأنها، و خلال النصف الأول من القرن العشرين، كانت، وبالتدريج، تدخل في إطار تأثير النتاج الجديد لمركز القاهرة الموسيقي، في إطار الشبكة الموسيقية للمدن العربية، مقابل ممانعة واضحة، في البداية،  لتسرب فنون الجبل إليها.

لم يكن هذا الوضع يسهِّل الأمر على منظري الكيان اللبناني المستقل، ولذا فقد كان هناك بحثٌ جدي عن مدرسة موسيقية جديدة تعبر عن الكيان الجديد، ما كان سيجعل بيروت ساحة للتنافس بين تيارات موسيقية بتأثيرات سياسية، وهكذا، وبالتدريج، دخلت بيروت، موسيقياً، في تأثير اندماجها مع جبل لبنان، بلغته الموسيقية المندرجة، من حيث المبدأ، في إطار شبكة موسيقية أخرى، هي شبكة موسيقى الريف الشامي.

نعم كان لابد لهذا الاندماج، في حيز جغرافي ضيق، من أن يطلق شرارة إبداع سيكون الأخوان رحباني، إلى جانب آخرين، المجسدين الرئيسيين لها، وستكون فيروز، إلى جانب آخرين، المحرض والناشر الرئيس لها.

من المنتظر أن تكون تلك اللغة الموسيقية ريفية، في إطار الشبكة الموسيقية الريفية الشامية، ولكنها في الواقع لم تكن تماماً ريفية فقط، بل إنني أقول بأن التلاطم الأول والأكثف بين لغات موسيقية متباينة، كما تلاطم الموجات، في مدِّها وجزرها، وذراها وانحساراتها، و أن المحرض للتنافس، ولسعي كل لغة موسيقية منها للبقاء والانتشار، لم يكن في بيروت، بل كان في جبل لبنان، كما سنرى!

يلخص هذا الفصل إذاً، الواقع الموسيقي في جبل لبنان، بفنونه ذات الطابع الريفي والجبلي الشامي، وكذلك التيارات الموسيقية فيه، المعبرة عن تيارات فكرية مختلفة، وصولاً إلى توصيف إرهاصات تشكل مركز بيروت الموسيقي، كمركز موازٍ لمركز القاهرة.

كما يعرض هذا الفصل لأغانٍ لفيروز، وثقت للتيارات الموسيقية في جبل لبنان، ومنها مثلاً، في إطار فنون الجبل، أغنية ميج يا بو الميج يا بو الميجانا مع تطوير لها ميج يا بو الميج بصوت فيروز بصوت فيروز.

متابعة  

فهرس الفصل الرابع
المشهد الأول
المشهد الثاني
المشهد الثالث
المشهد الرابع
المشهد الخامس
وأخيراً

الفصل الرابع

فيروز وعاصي ومنصور

فيروز وعاصي ومنصور

رأينا في الفصول السابقة أن غناء بيروت لم يتغير ، طيلة الفترة الممتدة ، من نشوء فكرة لبنان الكبير وإعلان الدستور عام 1926 ، إلى إعلان الاستقلال ، عام 1943 ، الذي كرس لبنان الكبير نهائياً ، إذ كانت بيروت لا تزال جزءاً من شبكة المدن العربية المشرقية ، مع تأثير لحلب ودمشق أكثر وضوحاً عليها ، في البداية ، وأنها ، و خلال النصف الأول من القرن العشرين ، كانت ، وبالتدريج ، تدخل في إطار تأثير النتاج الجديد لمركز القاهرة الموسيقي ، في إطار الشبكة الموسيقية للمدن العربية ، مقابل ممانعة واضحة ، في البداية ،  لتسرب فنون الجبل إليها.
لم يكن هذا الوضع يسهِّل الأمر على منظري الكيان اللبناني المستقل .. ولذا .. فقد كان هناك بحث جدي عن مدرسة موسيقية جديدة تعبر عن الكيان الجديد ، ما كان سيجعل بيروت ساحة للتنافس بين تيارات موسيقية بتأثيرات سياسية ، وهكذا ، وبالتدريج ، دخلت بيروت ، موسيقياً ، في تأثير اندماجها مع جبل لبنان ، بلغته الموسيقية المندرجة ، من حيث المبدأ ، في إطار شبكة موسيقية أخرى ، هي شبكة موسيقى الريف الشامي .
نعم كان لابد لهذا الإندماج ، في حيز جغرافي ضيق ، من أن يطلق شرارة إبداع سيكون الأخوان رحباني ، إلى جانب آخرين ، المجسدين الرئيسيين لها ، وستكون فيروز ، إلى جانب آخرين ، المحرض والناشر الرئيس لها ..
نتوقف اليوم عند المكون الثاني .. اللغة الموسيقية السائدة في جبل لبنان .. من المنتظر أن تكون تلك اللغة الموسيقية ريفية ، في إطار الشبكة الموسيقية الريفية الشامية .. ولكنها في الواقع .. لم تكن تماماً ريفية فقط .. بل إنني أقول بأن التلاطم  الأول والأكثف بين لغات موسيقية متباينة ، كما تلاطم الموجات ، في ذراها وانحساراتها ،  والمحرض للتنافس ، ولسعي كل لغة موسيقية  للبقاء والانتشار ، لم يكن في بيروت .. بل كان في جبل لبنان ..كما سنرى !        عودة للأعلى

المشهد الأول : شبكة موسيقى الريف الشامي

سبق أن بينّا أن المدن العربية في المشرق، التي كانت تتواصل عبر طرق وسكك حديدية سريعة نسبياً ، كانت قد اندمجت في شبكة واحدة، جمعتها ثقافياً وأدبياً وحضارياً وفنياُ وموسيقياً، فيما كان للأرياف، في بدايات القرن العشرين، حيث التنقلات صعبة، والمسافات قصيرة،  شبكات متعددة، فريف بلاد الشام  وما بين النهرين له شبكته، وريف وادي النيل له شبكته، وريف المغرب العربي له شبكته، وريف الخليج العربي له شبكته، مع تمايزات وتلوينات بين المناطق الجبلية والسهلية والبوادي، ومع ذلك، فقد كان من الطبيعي، أن تكون هناك نقاط تبادل بين ثقافة المدينة، و الثقافة السائدة في شبكة الريف، في البلدات والقرى المحيطة بها، دون تأثير واضح في نتاج شبكة المدن العربية.

بالنسبة للغناء، وهو موضوعنا الأساس، فقد سبق أن ميزنا بين مسارين مختلفين، من حيث الخصائص: غناء المدن العربية، وغناء الأرياف السهلية والمناطق الجبلية. يتميز غناء المدن العربية، كما أسلفنا، وفي إطار مشابه للغة العربية الفصحى، باتساع مساحته الصوتية، وبتنوع المقامات والإيقاعات والقوالب الموسيقية التي تبنى عليها الألحان، كالموشحات والأدوار والقصائد، وبقابليته للتطور والتوثيق والبحث عن أجواء لحنية جديدة، تعبر عن عصر جديد، خاصة عندما تولد تقنيات تحرض ذلك التطور، كالأسطوانة والإذاعة والسينما والتسجيل.

بالمقابل، تميز الغناء الريفي والفولكلوري، قبل أن تتسلل إليه فنون المدن، عبر الأسطوانة فالراديو أولاً، ثم التلفزيون ثانياً، لتقرب بينه وبين والمدينة موسيقياً، بطبيعته المحلية والبسيطة، التي تكفي نشاطات الحياة البسيطة فيه، كما اللغة العامية، بكلماتها الكافية لنشاطات الحياة اليومية البسيطة، وبضيق مساحته الصوتية، ومحدودية عدد المقامات والإيقاعات المستعملة، وسكونية التطور، وباعتماده على التكرار اللحني، مع التبديل في النصوص المغناة، وعلى التناقل الشفاهي، الذي مع الوقت، يُغيِّب المبدع، كلمة ولحناً.

وقد عبرت عن هذه الخصائص أشكال غنائية ارتبطت بالدبكة عموماً، وبالمواويل، وبأغاني الدلعونا وأبو الزلف والعتابا والميجانا والغزيل والميج وظريف الطول والشروقي والموشح البلدي وغيرها..  وهي بالنتيجة جمل لحنية بسيطة لا يُعرف من وضعها، يتوالى الزجالون على صياغة كلمات تتوافق معها، ويتبارون في توليد معانٍ جديدة في كل مرة، في أسلوب يشبه مبدأ القدود الحلبية، وإن كانت القدود أكثر تنوعاً، وأقرب لصياغة شبكة موسيقى المدن العربية. إلى جانب ذلك يكثر تنافس الزجالين على توليد كلمات مبنية على جمل لحنية متداولة أيضاً دون إيقاع، في سعي للتفاخر والمديح أو هجاء المنافسين..

وفي الإجمال، يمكن القول بأن السمة الغالبة في الأرياف، السهلية والجبلية، كانت ندرة الألحان، ما يقود إلى إعادة توظيفها دائماً من قبل الشعراء والزجالين، وما يؤكد ندرة الملحنين، وكثرة الشعراء والزجالين، في شبكة موسيقى الأرياف والجبال، وبأننا كلما اقتربنا من شبكة موسيقى المدن، كلما ارتفعت نسبة الملحنين إلى الشعراء.

وفيما بعد وثقت فيروز لجميع فنون السهل والجبل، فغنت الموال والغزيِّل والميجانا والدلعونا وأبو الزلف والدبكة، على أصولها، ومع تطوير، سواء في أسلوب التقديم، أم في تطوير الجملة اللحنية، وهو ما سنعرض له بالتفصيل لاحقاً.

يمكن هنا أن نورد مثلاً  موال يا مركب الريح  مع الدبكة..


لكن الموسيقى في جبل لبنان كانت أكثف وأغنى من ذلك، بفعل عوامل أخرى، حان الوقت الآن لاستعراضها!

  عودة للأعلى

المشهد الثاني : الموسيقى في جبل لبنان

سنتوقف الآن، وفي إطار عرضنا للأرضية التاريخية لنشوء مركز بيروت الموسيقي، عند فكرة أساسية، ندُر أن أشير إليها، في حدود علمنا، وهي أن نتاج جبل لبنان الحضاري والفني والأدبي والثقافي لم يكن ريفي الطابع فقط، إذ أن الجبل كان، وبتأثيرٍ من انفتاحه الحضاري على الغرب، منذ أن كان  للغرب وصاية عليه، في إطار الحكم العثماني، قد تحول إلى ساحة للحوار الحضاري والثقافي، إن لم نقل لتلاطم الرؤى، بين تيارات متعددة.كان هذا طبيعياً بنتيجة تكوينه الديموغرافي،  نسبة لمحيطه الكبير، ما تسبب في توزع التيارات الفكرية والسياسية بين تيارات جامعة له مع محيطه، أو نابذة له.

تركزت تلك التيارات الفكرية أولاً: في تيارٍ اعتمد الفضاء العربي المرتبط بالجذور، وهو الجامع الأوسع، مع اقترابٍ من البعد الشامي في هذا الفضاء.  حاول هذا التيار تجاوز الصراع التقليدي الداخلي في الجبل، الحاصل منذ مئات السنين، (بين الموارنة والدروز)، وكذلك تجاوز الصراع المتوقع تالياً، بين ثنائية الجبل والساحل في بيروت. شهد هذا التيار إرهاصاته في الجبل، قبل أن يتطور، مع انطلاق الثورة العربية الكبرى في الحجاز، التي لقيت دعماً مبكراً من سلطان باشا الأطرش في جبل العرب في سورية، ليتوسع لاحقاً مع الولايات العربية في إطار السلطنة العثمانية، ومنها ولاية بيروت، ومتصرفية جبل لبنان، ثم ليجد تجمعاً لقواه في بيروت، العاصمة الجديدة للبنان الكبير.

إلى جانب ذلك، كانت تيارات سياسية أخرى تنشأ، إذ برز، ثانياً  تيارٌ اعتمد أيضاً الفضاء العربي الواسع، بتأثيرات فكرية وسياسية مصرية، تحملها التكنولوجيا، وخاصة الإذاعة، و ثالثاً : تيارٌ اعتمد كيان  سورية الكبرى، وهو فضاء جامع أيضاً، وإن كان بقدر أقل، في سعي لبناء خصوصية مستقلة لبلاد الشام،  و رابعاً : تيارٌ اعتمد الكيان اللبناني الجديد، وهو الفضاء النابذ الأضيق، الذي سعى لتكريس لبنان الكبير، مع أولوية للتواصل مع الغرب بعيداً عن سورية والعالم العربي، و خامساً : تيارٌ كنسي شرقي، ارتبط بالمحيط المشرقي ، واعتمد الفصحى في أغانيه، وخاصة في الأفراميات، وهي أغانٍ سريانية قديمة كان جمعها مار أفرام السرياني، ثم حوِّلت كلماتها إلى اللغة العربية الفصحى، وكذلك في أعمال ملحنين ومنشدين لاحقين أمثال متري المر، الذي سنعود إليه لاحقاً، أو كنسي غربي، حاول أن يُبقي على تقاليد متأصلة في  الجبل، حفظت له مكانته، بدعم من الغرب أمام العثمانيين، مع ارتباط بالكنيسة الكاثوليكية، و سادساً : تيارٌ وجد في الغرب فضاءً جامعاً، بتأثير من الدول الغربية وخاصة فرنسا، لنقل ثقافتها إليه، وسابعاً :  تيارٌ اقتصادي سياسي، سواء أكان اشتراكياً جامعاً، ارتبط مع منظومة دول الاتحاد السوفياتي الناشئ، أو رأسمالياً جامعاً مع الغرب مجدداً، وثامناً: تيارٌ علماني جامعٌ مع متَّبعيه على المستوى العالمي، بتأثير محتمل من علمانية فرنسية،  كانت تحاول تجاوز كل هذه الاتجاهات التي رأتها تفرق الناس، بعيداً عن سلطة الانتداب، الباحثة عن تثبيت رؤىً، وإلغاء أخرى!

من المفيد أن نتوقف عند عناوين الأناشيد التي لحنها متري المر إذ أنها ستبرز تلاطم الرؤى: بني وطني أسود العُرب، سيروا للأمجاد طراً سيروا للحرب واستعيدوا بالمواضي دولة العُرب، أنتِ سوريا بلادي، نشيد أنت سوريا بلادي – متري المر ، نادى بنو فينيقيا!

كان جبل لبنان إذاً ساحة ثرية لحوار، أو لتلاطم رؤى، سرعان ما سينتقل إلى بيروت، فيحرك فيها مكامن إبداع ذي طابع مختلف. طبعاً هذه الاتجاهات كانت موجودة في بيروت، ولكن ليس بنفس الحدة، بسبب الطبيعة الديموغرافية لأغلبية السكان فيها، التي كانت تجمعها مع محيطها العربي والإسلامي، ولكن اجتماع الجبل وبيروت، جعل لكل اتجاه أنصاراً فيها، بحضور شبه متوازن.

الأخوان فليفل

من المفيد هنا، وفي معرض إعطاء أمثلة على نتائج تلاطم الرؤى، أن نذكِّر أن نشوء الفكر القومي العربي بشكل مبكر، وقبل الثورة العربية الكبرى، مثلاً، تسبب في أن أبدل الشاعر بشارة الخوري اسمه إلى الأخطل الصغير، في صيف عام 1914، لكي ينظم الشعر القومي العربي، متخفياً من ملاحقة السلطات العثمانية، ليتفاجأ بعدئذ، في تلاطم الرؤى الموصوف أعلاه، بتيار جديد، يعتمد الكيان اللبناني، يحل في بيروت.

بالمقابل، يمكن أن نعطي أمثلة على تساكن تلك الرؤى، إذ أننا سنرى لاحقاً، أن الأخوين فليفل، شاعري وملحني الأناشيد العروبية الجامعة، لحنا نشيد حزب الكتائب اللبنانية، الذي أُسس على غرار أحزاب قومية أوربية!  وأن الشاعر الكبير سعيد عقل، المنادي بالكيانية السورية ثم بالكيانية اللبنانية، نظم، (أو نقَّح)، كلمات نشيد جمعية العروة الوثقى، ذات التوجهات العروبية، برئاسة قسطنطين زريق!

فعلاً كان هناك تلاطم للرؤى، وتساكن بينها، وتحولات في المواقف. لقد كانت الحدود بين تلك الرؤى تغيب وتحضر، مع تغير الأزمان والأحوال..

مع بداية القرن العشرين الفعلية، بعيد الحرب العالمية الأولى، كما أسلفنا، كان نتاج جبل لبنان الغنائي يعكس تلاطم الرؤى الموصوف، وتفاعلها وتحاورها، فالفروق كبيرة بين فنون الجبل التقليدية، ذات الطبيعة الريفية الشامية، التي سبق ذكرها، بلونها الجبلي، والفنون الأخرى المعبرة عن التوجهات الفكرية والسياسية البديلة، ناهيك عن البون الشاسع بين موسيقى الأرياف الشامية، وموسيقى الغرب، الكلاسيكية والمنوعة، الحافلة بالأبعاد الهارمونية والتعبيرية، من جهة، وبالإيقاعات الراقصة، من جهة أخرى.

سنبحث في الفصل التالي، في انعكاسات هذا التفاعل، على منابع فن الأخوين رحباني، وسنرى أن الأخوين رحباني، قدما جميع هذه الرؤى، مع تفضيلات لبعضها، على البعض الآخر، ما تسبب في أن تكون موسيقاهما متوازية المسارات، إن لم تكن متباعدتها، دون أن نحس بذلك لسببين: صوت فيروز الجامع الذي جعلها منسجمة رغم تباعدها، وكذلك الصياغة الرحبانية الخاصة لشكل التقديم وأدواته.

نعم، لقد قدم الأخوان رحباني، مع فيروز، جميع الاتجاهات الفكرية التي كانت تتلاطم في الجبل، ثم في بيروت، مع تدوير في زواياها، فجمعا المتناقضات. كانت رسالتهم تحقيق تجانس لبنان بجميع متناقضاته، والبحث عن المشتركات الإنسانية بين سكانه.

ولكن الوصول إلى هذا كان لايزال بعيداً، ومن يستعرض بدايتهما، يدرك بسرعة أن رحلة التحول إلى الإبداع الحقيقي الجامعة للمتناقضات، والباحثة عن طريق خاص ضمنها، لم تكن سهلة، وأن هذه الرحلة لم تكن لتكون لولا صوت فيروز، الذي كان الجامع لها، كصورة عن الهدف المأمول في لبنان الجامع، وكان المحرض والناشر لنتاجها، والعامل الأهم في إقناع الجمهور بتبنيها.

سنتتبع لاحقاً كيفية توثيق الأخوين رحباني وفيروز لجميع تلك التوجهات الفكرية، وكذلك للتوجهات الفكرية الرحبانية الخالصة، ولكننا يمكن لنا، ومن الآن، إعطاء أمثلة:

لقد تغنت فيروز كثيراً بقصائد وموشحات تعود لشعراء عرب قدماء، كعنترة بن شداد، وجرير، وأبي نواس، ولسان الدين بن الخطيب، وابن زهر الأندلسي، وابن سنّاء المُلك، وصدر الدين الوكيل، وابن زيدون، والحصري القيرواني..  يا ليل الصبُّ لفيروز والحصري القيرواني، وأغانٍ عروبية من نتاج مركز القاهرة، سبق أن أشرنا إليها في فصل سابق، وشامية لأبي خليل القباني، وغيره، كما في موشح بالذي أسكر من عرف اللمى، وللعلاقة الخاصة بين لبنان وسورية التي تأتي باسم الشام، مع تعريف لبنان بالجبل، كما ورد في سائليني يا شآم حيث تقول:

ظمِئَ الشرقُ فيا شامُ اسكبي
واملئي الكأسَ له حتى الجمام
أهلكِ التاريخُ من فُضلَتِهم
ذِكرُهُم في عُروةِ الدهرِ وسام
أُمَويُّونَ فإن ضقتِ بهم
ألحقوا الدنيا ببستانِ هشام
أنا لست الغَرِد الفردَ إذا
قلت طاب الجرح في شجو الحمام
أنا حسبي انني من جبل
هو بين الله والأرض كلام
قمم كالشمس في قسمتها
تلد النور وتعطيه الأنام


كما غنت كثيراً لمكون عربي وشامي ثانٍ: فلسطين، ورمزها القدس في أغانٍ عديدة ومنها: راجعون وزهرة المدائن وغيرها.

بالمقابل، غنت فيروز لجبل لبنان وفي محاور عدة، وطنية: كرمزٍ للبنان: في وطني يا جبل الأزرق


وجمالية: كما في هذي الربا الجنان، وكذلك لثنائية الجبل وبيروت في ياقونة شعبية ياقونة شعبية إذ تقول:

يا قونة شعبية بقلب البيوت.. يا وطني
شطك سيف معلق عا خصر بيروت.. يا وطني
جبلك حق والحق ما بيموت.. يا وطني

ولثنائية السهل والجبل أيضاً في دوارة ع الدوارة إذ تغني:

دوارة عالدوارة دار الحكي
هجروا الأحبا الحارة ليش البكي
دوارة دورتيني سهل وجبل
تحت الندي نسيتيني وبالي انشغل

كما غنت ترانيم كنسية كثيرة شرقية وغربية، وأغنيات كثيرة ذات منشأ غربي، فيما حفلت مسرحيات الأخوين رحباني بمواقف تبرز المواقف العلمانية، والرأسمالية، التي تحفز على المقاولة وإقامة المشاريع الفردية، وكذلك المواقف الإنسانية، بأبعادها الأخلاقية والفلسفية، محاور كثيرة، تتوافق مع تيارات كثيرة، سنتوقف عندها بالتفصيل، حين يحين الوقت لذلك.

عودة إلى الفهرس

المشهد الثالث : تلاطم بين بيروت وجبل لبنان موسيقياً في إطار لبنان الكبير في انتظار هوية جامعة

ميشال شيحا

ميشال شيحا

كان الاندماج بين فنون الجبل في تلاطمها، وشبكة موسيقى المدن العربية، قسرياً في بيروت، بفعل تشكل دولة واحدة جمعت الجبل والسهل والساحل. لم تكن بيروت تغني القرّادي، ولا ترقص الدبكة، ولا كانت منفتحة على الغرب بقدر الجبل، وكان عليها أن تواجه نفوذ أهل الجبل الأكثر تأثيراً، بفعل من كانوا خلف تشكيل لبنان الكبير أصلاً!

شكَّل هذا حالة غير مسبوقة، سيكون لها لاحقاً أثرها الكبير في ولادة أنماط ثقافية جديدة، ستكون الموسيقى من أبهى صورها، إذ أنها ستدمج بين أدوات شبكة موسيقى المدن العربية، بخصائصها المدينية، التي حملت خلاصة التفاعل مع عصر التقنيات، مع نتاجات فنية متعددة وافدة من الجبل، اختلطت فيها خصائص ريفية وجبلية محلية شامية، مع نتاجات تلاطم ثقافي فيه، قادته أيديولوجيات متنوعة، ضمت أيضاً تراثاً كبيراً من التفاعل مع الغرب، كان عاشه جبل لبنان في الغابر من الأيام، وأراد تعميمه على لبنان الكبير.

ولكن الافتقاد لمنطلقات واضحة للأهداف من الكيان الجديد، حيَّد هذا التلاطم مؤقتاً، وأبقى على سيطرة نتاج القاهرة الغنائي في بيروت، وهكذا كان على من روَّج لفكرة الكيان الجديد، إيجاد منطلقات تاريخية له، وتحديد الأهداف المستقبلية لوجوده.

تولى ميشال شيحا هذه المهمة، وهو رجلُ مال وأعمال لبناني شهير، ومنظرٌ بارع، من أصول عراقية، أعطى رؤيتين للبنان الجديد، تاريخية: وجدت في الفينيقية أساساً لأولاها، مع التغاضي عن امتداد فينيقيا التاريخي على طول الساحل الشامي، المنقسم حديثاً بين سورية ولبنان، واقتصادية حضارية: رأت في لبنان، المشكل من الجبل والبحر، والريف والمدينة، والمتمتع بتراثه الخاص، المتمثل في تراث جبل لبنان بشكل رئيسي، الواجب التركيز عليه وإبرازه، جسراً بين الشرق والغرب، ومركزاً للمال والأعمال في المنطقة.

لقد كان على بيروت أن تهيأ نفسها وتحشد طاقاتها، في جميع المجالات، لهذا الدور الجديد، وبما أن كل مركز للمال والأعمال، جاذبٌ للفنون بطبيعته، فقد كان لابد من أن تتحول بيروت، إلى مركز للنشاطات الفنية، وعلى رأسها الموسيقى والغناء…

    عودة للأعلى

المشهد الرابع: بيروت : المدينة – الدولة أمام مدن الشام الكبرى الأخرى

كان على بيروت أن تكون الصورة الحديثة للمدينة – الدولة الفينيقية القديمة، بكل سحرها، وشهرتها العالمية عبر المتوسط، بحيث يتماهى لبنان في بيروت وتتماهى بيروت في لبنان، لتكون صورته الجامعة.

لقد اعتمدت الرؤية الجديدة لدور لبنان الكبير وبيروت، على واقع المدن الكبرى المحيطة المستجد. كانت دمشق قد فقدت، بسبب الحدود الجديدة، ميناءيها التقليديين، في بيروت، وصيدا، اللذين أصبحا فجأة في دولة أخرى، وفقدت أقضيتها الأربعة، وهي من مراكزها الإنتاجية الزراعية الهامة، وكذلك فقدت صلتها مع مناطق إنتاج الحرير في صيدا، ومع أسواقه المرتبطة بالمنافذ البحرية في صيدا وبيروت وطرابلس، ما كان سيسهل في إجماله، دور رجال الأعمال اللبنانيين، الحاصلين على التوكيلات العالمية، بفعل الصلات المميزة مع الغرب، في إدارة عمليات الاستيراد لدمشق ولسورية عموماً، والتصدير منها.

ولم يكن حال حلب، التي كانت مركز التجارة العالمي بين أوربا والعراق والهند، وكانت استطاعت الحفاظ على أهمية نسبية رغم افتتاح قناة السويس، بأفضل من حال شقيقتها دمشق. لقد أصبحت في وضع صعب، بسبب الحدود الجديدة التي نشأت في عام 1920، فأفقدتها فضاءها الحيوي الواسع شمالاً، الذي كان يؤمنه لها وجودها ضمن حدود السلطنة العثمانية، وهو واقع زاد من صعوباته لاحقاً، قيام فرنسا بسلخ لواء الإسكندرون، الميناء التقليدي لحلب، في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، لصالح تركيا، تأميناً لحيادها في الحرب العالمية الثانية، ما أنهى عملياً أهمية حلب التجارية غرباً، على الأقل مع الجانب الأوربي، و حصر حركة التجارة السورية البرية بالعراق، فيما كان على حلب، في علاقتها التجارية العالمية ، أن تعتمد على ميناء بيروت، أي على الكيان اللبناني الجديد، الذي أصبح تقريباً، النافذة التجارية الوحيدة لسورية مع العالم.

نعم، ومرة أخرى، كانت نتائج الحرب العالمية الأولى في طريقها لتغيير ملامح عالمٍ كان قد استقر على تفاصيله لمئات خلت من السنين، وكان لابد من أن تتلاشى ملامح الفنون التي كانت سائدة، وأن تبدأ ملامح بيئة فنية وثقافية جديدة بالنمو، ترسمها خيوط سينسجها عدد كبير من المبدعين المتعاصرين والمتنافسين، في الموسيقى والغناء والأدب والشعر، كما أسلفنا، ولكن نتاجها كان سيتأثر كثيراً بالنزعات الفكرية والإيديولوجية البديلة، وبالنسبة للبنان، كان على الجميع الاندماج في الرؤية الجديدة، حتى في الفن والغناء. لم يكن هذا سهلاً، إذ أن الرؤى التي وضعت لبيروت، كانت رؤى جديدة تماماً، ومختلفة عما كان سائداً فيها، على مدى تاريخها الطويل!

  عودة للأعلى

المشهد الخامس : التحولات الكبرى تولد  الإبداعات كبرى.. لبنانياً

كانت بيروت، إذاً على أعتاب مرحلة جديدة، ستولدها تحولات سياسية واقتصادية كبرى، ستصبح فيها بيروت، إلى جانب تحوُّلها إلى مركز مالي واقتصادي كبير، مركزاً جديداً من مراكز موسيقى المدن العربية، مثَلها في ذلك، وفق ما عرضنا سابقاً، مثَل جميع مراكز موسيقى المدن العربية، التي لم تكن ولادتها متزامنة، بل كانت ترتبط بتحولات مراكز القوة السياسية والاقتصادية العربية، وتَنَقُّلِها بين الحواضر العربية والإسلامية، والظروف التي حكمت إنتاج الغناء ونشره بينها. ولكن الجديد هنا، أن التحولات في بيروت كانت تستقر يوماً بعد يوم، لتولد مركزاً موازياً، لأول مرة في التاريخ الموسيقي العربي، لمركز آخر، وهو هنا مركز القاهرة.

ومن الجدير بالذكر أن تشكل مركز القاهرة كان بسبب تحولات اقتصادية وتكنولوجية وانفتاح على الغرب، ولم يكن بسبب تحولات سياسية، إذ أن تشكله ثم استمراره أتى أولاً في ظل حكم ملكي، ليتابع في ظل حكم الرئيس جمال عبد الناصر، الذي لا شك أعطى دفعة جديدة له، فيما كان تشكل مركز بيروت، أولاً، بسبب تحولات سياسية، نتج عنها تحولات اقتصادية، وانفتاح على الغرب أيضاً.

لقد أصبح لبنان الكبير بالتدريج أمراً واقعاً، معمقاً التحولات التي خضعت لها بيروت لها، كحالة استثنائية بين المدن العربية الأخرى، ومهيئاً لها لتنتج مدرسة غنائية جديدة، تعبر عن الرؤية الجديدة لدور لبنان، وتعتمد في جوهرها على المزج بين خصائص الموسيقى المدينية العربية، والفولكلور الشامي، والمجسدات الموسيقية المحلية لتفاعلات التيارات الفكرية في العالم وتلاطمها، مع خصائص موسيقى الغرب.

كفِل هذا في الإجمال، تحقيق شخصية مميزة لتلك المدرسة من جهة، وتثبيت دورها كجسر بين الغرب والشرق العربي، ولكنه تطلب أن يتم تحويل النتاج الموسيقي الموصوف، في إجماله، إلى صناعة، تلخص فنون المنطقة، وتؤمن لها اكتفاءها. كان على المدرسة الموسيقية اللبنانية الجديدة أن تنتشر في الشام أولاً، والعالم العربي ثانياً، وأن تنشر معها صورة لبنان كجسر فكري وفني، ولم لا، كجسر اقتصادي وتجاري أيضاً، بين الغرب والشرق.

ستعيش بيروت إذاً ذلك الصراع بين تيارات موسيقية بتأثيرات سياسية، ولكنها ستحاول، وفق دورها الجديد، كعاصمة للبنان الكبير، تنفيذ الرؤية الجديدة، لكي تكون المدينة – الدولة، الحاضنة لتلك المدرسة الموسيقية الجديدة. كان على بيروت أن تجد صيغة موسيقية مبدعة، تعبر عن مكوني لبنان الكبير الرئيسيين: الجبل والبحر، إضافة إلى المكون الثالث: الجسر بين الشرق والغرب، بأبعاده الفكرية والاقتصادية.

أستطيع أن أقول إذاً، أن تشكيل لبنان الكبير، بالصورة التي نشأ فيها، خلق الظروف التي أدت إلى تشكيل الحركة الموسيقية اللبنانية، كحركة موسيقية مدينية عابرة للحدود بين دول العالم العربي، على طول شبكة موسيقى المدن العربية، قادرة على توفير ” منتجات موسيقية ” ملائمة لأغلب الأذواق والتوجهات الفكرية المتلاطمة، وفق الرؤية الجديدة.

 كان هذا دمجاً مأمولاً، يحتاج إلى رواد لينفذوه، ولأصوات لتحمله، في موجة هادرة عليها أن تعاكس السائد. وبالنتيجة، لقد كان على هؤلاء المبدعين أن يولدوا قبل ذلك التاريخ بربع قرن على الأقل.

وفعلاً، ومثلما بُني مركز القاهرة، الذي سيطر على الغناء العربي ابتداءً من نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، وحتى نهاية العقد السادس منه، على نتاج فكر مبدعين اجتمعوا فيها، من مناطق مختلفة، مصرية وشامية، وتعاصروا، وكانت ولادتهم بين تسعينات القرن التاسع عشر ونهاية العقد الثاني من القرن العشرين، فقد بُني مركز بيروت على نتاج فكر مبدعين، اجتمعوا فيها، من مناطق مختلفة، تعاصروا، وكانت ولادتهم، بين العقد الثاني والعقد الرابع من القرن العشرين.

فيروز وفيلمون وهبي

كان أول الغيث في لبنان، ولادة خالد أبو النصر عام 1911، ثم زكي ناصيف عام 1916، وفيلمون وهبي وسعيد عقل عام 1918، ووديع الصافي في 1921، وعاصي رحباني في 1923، وتوفيق الباشا وألكسندرا بدران ” نور الهدى ” عام 1924، ومنصور رحباني في 1925.. وجانيت فغالي ” صباح ” في 1927، ونهاد حداد ” فيروز ” في عام 1935، والقائمة طويلة..

بالمقابل شهدت سورية وفلسطين ولادات مماثلة، في تلك السنوات الأولى من القرن العشرين، كان لها دورٌ مهم في دعم مركز بيروت الناهض، سنتوقف عندها عندما يحين الوقت!

وفي الواقع، فإنني أعتقد أن المواهب موجودة دائماً، ولكنها بحاجة لمجموعة من العناصر لكي تكون قادرة على تحقيق نهضة موسيقية، أهمها وجود موقع، يتمتع بالقوة الاقتصادية، ويوفر إمكانات الرعاية والنشر والصقل، ويعيش تحولات سياسية أو اقتصادية أو تقنية، والمحظوظ من الموهوبين هو من يولد في عصر يتوفر فيه هكذا مركز، فيما، وفي حال الافتقاد لهكذا مركز، تأتي مواهب وتذهب، دون أن يعلم بها أحد!

  عودة للأعلى

وأخيراً..

كانت بداية العشرينات، فترة مفصلية في تاريخ لبنان، سياسياً وحضارياً واقتصادياً وفنياً: دولة جديدة تولد لدور جديد، ومركز موسيقي جديد يتحضر لدور جديد. ولكن لم يكن لهذا المركز أن يتشكل وتكتمل عناصر نجاحه، إلا عندما، وبمشيئة من الأقدار أيضاً، سينتقل وديع حداد، في بداية العشرينات أيضاً، من مدينة ماردين السورية، ليستقر في جبل لبنان أولاً، ثم لينتقل مع ابنته نهاد، فيروز لاحقاً، إلى بيروت، فيتوفر لمركز بيروت الجديد، الصوت المحرض والناشر لنتاجه، ولنتاج الحركة الموسيقية اللبنانية الجديدة.

هل ستتمكن بيروت من نشر نتاجها الجديد، في ظل إذاعة متواضعة القدرات؟ وما دور إذاعة دمشق في اعتماد النتاج الجديد، في العالم العربي عموماً، وفي سورية خصوصاً، وحتى في بيروت!؟ في ظل التأثير التقليدي لدمشق على بيروت.

ثم ما دور القادمين من فلسطين، بعد نكبتها ونشوء الكيان الصهيوني في عام 1948، في تنشيط الحراك الموسيقي في بيروت؟ سواء أكان ذلك لتأكيد حضور القاهرة الفني، أم لتدعيم الرؤية الجديدة لدور لبنان الكبير؟

أسئلة كثيرة سنجيب عنها في التاليات من الفصول، أما الآن فقد حان الوقت لنتعرف على بدايات مبدعَين، ستنشر فيروز نتاجهما في جميع أصقاع العالم: الرحبانيان: عاصي ومنصور!       عودة للأعلى

د. سعد الله آغا القلعة

مقدمة وفصول الكتاب المنشورة

Tagged , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading